اتفاق التعاون الاستراتيجي بين قطر وتركيا

26 ديسمبر 2014

الشيخ تميم بن حمد وأردوغان يتبادلان وثائق الاتفاق (19ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -
لم يكن الإعلان، يوم 19 ديسمبر/كانون أول الجاري، عن إنشاء مجلس تعاون استراتيجي بين قطر وتركيا مفاجئاً، فقد شهدت العلاقات بين البلدين نمواً مطرداً في السنوات العشر الماضية، ولم يطرأ عليها في سائر محطاتها أي فتور وجمود. والإعلان عن مجلس التعاون جرى التعبير عنه في قمة ثنائية بين أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الدوحة في 15 سبتمبر/أيلول 2014.

تستند هذه العلاقات إلى جملة من المصالح المتشابكة الاقتصادية والسياسية، بين دولة منتجة للغاز والنفط ودولة ما انفكت تحقق مكانة متقدمة في الاقتصاد العالمي وفي ميزان القوى الإقليمي. قطر "دولة صغيرة"، كما يطيب لبعض مسؤوليها القول بمزيج من التواضع والجدية والدعابة معاً، تعتمد على شبكة من العلاقات، تبدأ من الدولة العظمى، الولايات المتحدة، وتمُرّ بلبنان وتونس والسودان، وليس وصولاً إلى علاقات مع منظمات وأحزاب فلسطينية وعربية خارج السلطة. فيما جمهورية بلاد الأناضول تجمع بين هوى أوروبي وعضوية اطلسية واهتمام متزايد بالعمق الإقليمي الشرق أوسطي والعربي والإسلامي. وهكذا، على التفاوت الكبير بين حجم البلدين والنظامين السياسيين، فإن ثمة ما يجمعهما، وهو الدينامية السياسية الإقليمية التي ازدادت وتيرتها في السنوات الأربع الماضية.
خمس متغيرات 
يأتي ما سبق استجابة لمتغيرات دولية وإقليمية، أولها الانكفاء الأميركي والسياسة الحمائمية للإدارة الديمقراطية (على الأقل مقارنة بعسكرة السياسة الخارجية في عهد الجمهوريين)، التي نأت عن الانغماس في شؤون المنطقة، سوى بحدود تفرضها الحاجة إلى النفط، وهي حاجة تقل عما سبق من عقود، والحفاظ على التفوق الإسرائيلي على مجموع الدول العربية، بما في ذلك التفوق النووي واحتكار أسلحة الدمار الشامل.


المتغير الثاني، الجموح الإيراني في التغلغل في المنطقة، والنظر الإيراني إلى المنطقة ودولها وشعوبها على أنها رجل مريض، يستحق الحجر عليه، والتصرف بشؤونه، كما كان يتم النظر من القوى الاستعمارية الصاعدة آنذاك، البريطانية والفرنسية، ابتداء من العام 1914 إلى الامبراطورية العثمانية التي كانت تبسط نفوذها على المشرق العربي وما يتعداه.

المتغير الثالث، تكريس اتجاه الدولة العبرية نحو اليمين الأشد تطرفاً، ورفض التسويات وفق قرارات الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي.

والمتغير الرابع، موجة الربيع العربي التي أيدتها أنقرة، ابتداء من تونس، وصولاً إلى دمشق. وقد كان لوصول الموجة إلى عاصمة الأمويين مناسبة رأت فيها طهران أنه قد آن الأوان لمعاقبة الشعوب العربية، ابتداء من الشعب السوري، على أي تحرك قد يضر بمصالح "الامبراطورية" الإسلامية الإيرانية، وأن على الشعوب العربية أن تكيف أوضاعها ونظرتها إلى المستقبل، وفق السيناريو الإيراني التوسعي.
أما المتغير الخامس فيتمثل في تمدد تنظيم داعش الإرهابي في سورية والعراق، وقيام التحالف الدولي بحملة عسكرية عليه منذ أغسطس/آب الماضي، وفي تمدد جماعة الحوثيين المدعومين من إيران، واستيلائهم التدريجي، لكن الفعلي على السلطة في صنعاء.

دفعت هذه المتغيرات كلاً من الدوحة وأنقرة إلى بلورة سياسة مستقلة لكل منهما، تراعي الوضع الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة، وتتعامل إيجاباً مع تطلعات الشعوب إلى الحرية والكرامة، حتى لو شاب بعض هذه السياسة ما شابها في أداء حزب العدالة والتنمية، من اعتراض المعترضين في الداخل التركي. فما زال هذا الحزب يحتكم إلى معايير اللعبة الديمقراطية، فيما دولة قطر تسير نحو بناء نموذجها "الديمقراطي" الخاص في الداخل، وبسرعة أبطأ من دينامية سياستها الخارجية.
مصالح متبادلة ومواقف سياسية
بطبيعة الحال، فإن المصالح الذاتية/ الثنائية لكل من أنقرة الدوحة هي التي دفعتهما لمزيد من التقارب، فكلا البلدين يبحثان عن أسواق وفرص استثمار. ودولة قطر، مثلاً، علاوة أنها تتوفر، كغيرها من الدول، على سوق لا تني تكبر (تستورد منها تركيا 1،2 مليار متر من الغاز سنوياً)، فهي كذلك تشيد إنشاءات ومشاريع ضخمة لاستقبال كأس العالم عام 2020. ولدى تركيا، ذات الثمانين مليوناً، مشاريعها الضخمة وحاجتها لاستثمار داخلي وخارجي.


في السياسة المستقلة، جاء الإعلان عن إنشاء مجلس لتعاون تركي قطري في ذروة نشاطات مجلس التعاون الخليجي، وانعقاد قمته في الدوحة، ديسمبر/كانون أول الجاري، والتي عُرفت بقمة التصالحات ودعم مصر في عهدها الجديد. وقد كان للقمة مفاعيلها ببدء ذوبان الجليد بين الدوحة والقاهرة، والتوقف التدريجي عن الحملات الإعلامية بين القاهرة والدوحة. وهو تطور بالغ الأهمية يعيد العلاقات بين مصر وقطر إلى طبيعتها بين دولتين شقيقتين، بصرف النظر عن تباين وجهات نظر النظام في كلا البلدين إزاء قضايا إقليمية. وهكذا تم توطيد العلاقات التركية القطرية، في وقت كانت فيه علاقات القاهرة وبعض دول الخليج مع أنقرة فاترة، أو تعصف بها الشكوك.

من الخطأ اعتبار الارتقاء بعلاقات الدوحة وأنقرة إلى مستوى استراتيجي على أنه التفاف، أو رد على المصالحات التي أبرمتها الدوحة مع دول شقيقة، فهذا التطور لم يكن وليد ساعته، بل جاء نتيجة تراكم في العلاقات والمصالح والتقاء وجهات النظر، إلى درجة يصح معها التساؤل لو لم يتم الارتقاء بمستوى العلاقات وأوجه التعاون، عن سر عدم حدوثه. فعلى الدوام، دأب مسؤولو البلدين على وصف العلاقات بينهما بالممتازة. وتطورات الأحداث الإقليمية والمواقف منها تُقرّب ما بينهما. وليس سراً القول إن البلدين تعرضا لمحاولات عزل كل منهما عن محيطه، منذ منتصف العام الماضي 2013، على خلفية الموقف من التغيير الذي جرى في مصر يونيو 2013، وأنهما قد صمدا في وجه محاولات العزل، ولكن، مع إلحاق أضرار معنوية مؤقتة بهما.

وزيرا الدفاع التركي والقطري بعد توقيع اتفاقية تعاون عسكري في أنقرة (19ديسمبر/2014/الأناضول)

وخلافاً لأي تأويلات متسرعة، تُصوّر التطور التركي القطري بأنه قفزة استباقية إلى الأمام، بعيداً عن روحية المصالحة القطرية المصرية، ظهرت إشارات تصالحية أولى من أنقرة (تصريحات نائب رئيس الوزراء، بولنت أجاويت، الثلاثاء 23 الجاري) نحو القاهرة، بعد أيام فقط من اتفاقية إنشاء لجنة التعاون الاستراتيجي. بدت هذه الإشارات التركية الإيجابية نحو عاصمة الفاطميين كأحد المفاعيل السريعة للتعاون الاستراتيجي بين أنقرة والدوحة، ما يدل، ابتداء، على أن هذا التطور ليس صدامياً على الإطلاق، ولا يمثل تحدياً للدول الكبيرة، مثل مصر والسعودية والمغرب والجزائر، بل على العكس من ذلك، فالاتفاق القطري التركي ينبئ، في أيامه الأولى، عن التوجه إلى المساهمة الجادة بإشاعة انفراج في العلاقات داخل الإقليم العربي الإسلامي، يشمل، في المقام الأول، دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وتركيا، وينعكس على العلاقات بين سائر مكونات الشرق الأوسط العربي والمسلم.
إيران وسياسات مستقلة
وهذا ما يغري بالنظر إلى الاتفاق الاستراتيجي بين أنقرة والدوحة، على أنه يقترح على دول منطقتنا اعتماد سياسات مستقلة، تقوم على الاعتماد الذاتي والمنعة الداخلية، وعلى بناء شتى أشكال التعاون، بعيداً عن المراهنة على العلاقات الدولية وحدها. فالولايات المتحدة (الصديقة الكبرى للجميع بما في ذلك تركيا!) معنية في هذه المرحلة بمنع امتلاك إيران الأسلحة النووية، من أجل ضمان انفراد تل أبيب بامتلاك هذه الأسلحة، ولا يعنيها بعد ذلك التمدد الإيراني في المنطقة، ما دام لا يمس المصالح الأميركية الثابتة.


حتى إن قيادة أميركا التحالف الدولي ضد داعش لم تأخذ في الاعتبار حساسية أن تتحول هذه الحملة المشروعة إلى رافد أيديولوجي يغذي الدعاية الطائفية للميليشيات الإيرانية الهوى في العراق وسورية ولبنان، التي وجدت في هذه الحملة "مصداقاً" لادعاءاتها بأن الإرهاب قصرٌ على البيئة السنّية. وبينما ما زالت الحملة المشروعة على داعش مستمرة، فإن واشنطن لم تطلب، مجرد طلب، مغادرة الميلشيات الأخرى الأراضي السورية، ولا طلبت من العراق أن يكون "الحشد الشعبي" ضد داعش وطنياً لا طائفياً. بينما تتحدث أنقرة أن الحملة ضد هذا التنظيم الإرهابي هي شأن للسنّة أولاً، وإنه من المهم تسليح العشائر العراقية السنّية المستهدفة من داعش، كما من بعض الميلشيات الطائفية ذات الهوى الإيراني، والتي تستغل الحملة على داعش لاستهداف المساجد وعموم البيئة السنية، وهو رأي ليس بعيداً عن رأي الدوحة التي تربطها علاقات جيدة مع ممثلي الحركة الإسلامية في غير بلد عربي.
في إطار النظرة نفسها، فإن البلدين يؤمنان بدمج الحركة الإسلامية في الحياة السياسية العربية بعد موجة الربيع العربي، وأنقرة ممثلة بحزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية الذي وصل إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، وبالامتثال لقوانين جمهورية أتاتورك العلمانية أوضح مثال على ذلك، من دون أن يكون هدف الاتفاق القطري التركي تأمين، أو تمكين، التيارات الإسلامية للوصول إلى السلطة في أي بلد، أو أن يحول الموقف الإيجابي من هذه التيارات من دون إقامة علاقات طبيعية بين أنقرة والدوحة من جهة والدول التي تشهد حكوماتها منازعات مع التيارات الإسلامية من جهة ثانية. وبوادر المصالحة مع مصر آية على ذلك، وكذلك مسارعة القيادة القطرية لتهنئة الباجي قائد السبسي بفوزه برئاسة تونس، وهو الموصوف والمعروف بنزعته العلمانية، على حساب المرشح الليبرالي القريب من إسلاميي حركة النهضة، المنصف المرزوقي.
وفيما تنحصر خيارات دول المشرق، وإلى حد أقل دول المغرب، بإقامة علاقات وثقى مع الدولة العظمى الأميركية والمعسكر الغربي عموماً، فإن دولاً أخرى اختارت أن تضيف إلى العلاقات مع واشنطن علاقات خاصة مع إيران، كحال النظام في بغداد، وكما يطمح بقايا النظام في دمشق، وكما يسعى الحوثيون وحزب علي عبدالله صالح (المؤتمر الشعبي) في اليمن.
خلافاً لذلك، اختارت الدوحة من أنقرة حليفاً استراتيجياً، من دون أن تخسر العاصمتان علاقتهما مع طهران، غير أن التعاون الوثيق بينهما من شأنه أن يفتح أمام الأطراف العربية الرسمية والشعبية خياراً ثالثاً، يتمثل في العلاقات مع أنقرة التي لا تُجيش الجيوش، ولا تنشىء ميليشيات لها، ولا تسعى إلى تحويل أحد عن طائفته ومذهبه، أو تعبث بالنسيج الوطني للمجتمعات، ولديها من فرص الاستثمار المتبادل ما يوازي الولايات المتحدة وشطراً كبيراً من دول الاتحاد الأوروبي، وتعد مَصْدراً ومُوّرداً للذهب الأبيض (الثروة المائية) واقتصادها أكثر استقراراً من الاقتصاد الأميركي. وتتمتع بخبرة غنية في مواجهة الإرهاب، وفي معرفة بؤره وخلاياه ومواضع تمركزه وانتشاره، وجهات تحركه نظراً للحدود الطويلة المفتوحة مع العراق وسورية، وتشكل تركيا وجهة سياحية "مثالية" للعائلات، بجمعها بين مزايا الحياة الغربية والشرقية، وتوسّطها بين أوروبا والمشرق العربي (20 ألف قطري يزورون تركيا كل عام، علاوة على السياح من بقية دول الخليج).
أخيراً

ليس ما تقدم ترويجاً لأحد أو جهة، بل شهادة تزكّيها الوقائع والمعطيات، علماً أن حزب العدالة والتنمية الذي يقود السلطات الرئاسية والتنفيذية والبرلمانية يشكو من متاعب سياسية في الداخل مع معارضةٍ تأخذ عليه نزعة متشددة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية، ونزعة تقييدية في التعامل مع وسائل الإعلام، بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي، ويتعرض، أحياناً، لانتقادات شديدة من الاتحاد الأوروبي، غير أن الحكم القائم ما زال يضبط أداءه على معايير الديمقراطية الداخلية المستقرة. والاتفاق الذي تم إبرامه من طرف الدوحة هو اتفاق معه، ومع الدولة التركية، ومع الشعب التركي الصديق، علماً أن قواعد هذا الحزب هي الأقرب إلى تفهم القضايا العربية ومناصرتها، من دون أن يعني ذلك التبخيس من شأن المعارضة العلمانية والقومية التي تمثل شطراً مهماً وحيوياً من المجتمع التركي الكبير والمتنوع، ووجوب التواصل معها في ما يخص الموقف من القضايا الإقليمية والاهتمامات المشتركة، وبغير ما تدخل في الشؤون الداخلية التركية.
في ضوء ذلك كله، يضيف الاتفاق التركي القطري جديداً إلى المعادلات السياسية في المنطقة، ويفتح أفقاً جديداً للعلاقات العربية التركية، ويسهم إسهاماً مباشراً في وضع حد لحالة الفراغ، أو سد الثغرات في جدار المواجهة مع النهج التوسعي والعنصري الصهيوني، كما مع التغول الإيراني في المنطقة، ويوفر بيئة أوسع وأعمق لمواجهة الإرهاب، ويوسع من آفاق الاستثمار المتبادل وخياراته وفرصه.