ابن طولون يطلب التمديد

06 فبراير 2019
+ الخط -
ضاق صدر أحمد بن طولون بشيخ المشايخ؛ فقد أفتى بحرمة شُرب ماء القناطر والوضوء منه. ويقلل هذا التحريم من مصداقية الوالي، ويضعه في حرج، وليس مقبولًا بأي حال أن تهتز صورة الوالي؛ فاقترحت الأذرع الإعلامية لابن طولون تأديب الشيخ، وارتأى بعضهم أن يكون الشيخ عبرة لغيره. عض ابن طولون شفته السفلى طويلًا، ولم يشأ أن يتخذ خطوة توغر صدر حلفائه؛ فربما يكون للشيخ قبول خارج القطائع، ويتعصّب له أتباعه ومريدوه وحلفاؤه في الخارج؛ فتضيع أحلام ابن طولون في تمديد فترة حكمه.
وفي الظلام الدامس، بادر زوار الفجر بزيارة المارق؛ فأحضروا رجلًا في السبعين، وأوقفوه على القناطر من دون أن يتكلموا؛ فدارت رأس الشيخ وظن أنهم سيقتلوه لا محالة، وسرت في جسمه رعدة انتفض منها، وبعد مدة أقبل ابن طولون؛ فلم يخاطب الشيخ بكلمةٍ ليتلاعب بأعصابه، كان يرنو إلى المياه. وفي مشهد تمثيليٍّ، انحنى واغترف من المياه "المحرمة" وشرب، وباغت الشيخ بلهجةٍ ملؤها الغضب والغيظ: اشرب يا مولانا!
نزل الشيخ على ركبتيه، وعبَّ من الماء حتى امتلأ ابن طولون زهوًا، شرب الشيخ حتى تثاقلت خطاه، وأنساه الخوف وضر الماء الذي أفتى به قبل ساعات، ولا بأس من بلع فتوى أو لحسها، فالنفس عزيزة والوالي غال. إمعانًا في الاتضاع، وليقطع على أذرع ابن طولون أي فرصة للنيل منه، هتف الشيخ بأعلى صوته: يا له من مذاقٍ أطيب من مذاق نهر الجنة! أتعبت جملته الأخيرة محاولات الموتورين، وقطعت عليهم محاولات استبدال شيخ المشايخ، وضمن ابن طولون تصدير حالة التأييد والموالاة لكل فئات الشعب.
فهم ابن طولون ما رمى إليه شيخ المشايخ، وقربه منه وخلع عليه الهدايا والعطايا، وسجل الحادث في مذكراته لينتفع بها الولاة من بعده. بعد مدة، أراد ابن طولون أن "يبلط في الخط"، وأن يطيل مدة بقائه في الكرسي مدى حياته، وتحجج بأن صحته "بمب"، وأنه يسير على قدميه ويمارس رياضة ركوب الدراجة، وأنه ليس أقل من عبد العزيز بوتفليقة، وأنه سيجعل من القطائع عاصمة إدارية على أحدث طراز، ويحتاج للتمدّد والتجديد، فلربما تسنح له الفرصة بعمل شيء يستحق الذكر.
هلل الغلمان والخصيان لابن طولون، وبدأت الآلة الإعلامية في حشد الغلابة لمؤازرة ابن طولون، لكن أحد الحشم ذكر تعنت شيخ المشايخ الجديد؛ فهو عنيد وسيقف بالمرصاد للتمديد، وسيصبح كما اللقمة في الزور؛ فصاح الحشم بالرجل: يا عاقد اذكر حلًا! فكأنما كان ينتظر هذه العبارة، وأشار عليهم أن ينكِّلوا بالشيخ ويكسروا شوكته أو يقطعوا دابره. ابتسم ابن طولون وتذكر أن الحل موجود، فالشيخ قد جاوز السبعين بثلاث محطات، ولن تحتمل عظامه البرد القارس، ولن يصمد أمام أقلام كتبة الوالي وصحافته الصفراء، وسيخر على ركبتيه كما فعل سلفه بالأمس.
دعا ابن طولون الشيخ إلى احتفالية سنوية، وطفق يُظهر العين الحمراء للشيخ، ويلمِّح له بواقعة مياه القناطر، وبين جملة وأخرى يرقب الشيخَ ويرصد ردود أفعاله، ثم خطر له أن ينتزع المبايعة على الملأ، وكله ثقة أن الشيخ رقت عظامه، ولا طاقة له بالمقاومة. انتصب الشيخ يلقي كلمته، فلم يذكر البيعة والولاية، وقال ما مفاده "أنا لست ما يطلبه المستمعون"، ووقع ابن طولون في حيص بيص، ولم يحسب حساب الشيخ؛ فالشيخ الطيب لم يرضخ ولم يركع.
سيمضي ابن طولون إلى حال سبيله، وسيأتي كافور الإخشيدي، ولن يعدم بطانة تطبِّل من أعماقها، وتسأل مغتبطة: "هل يضعه كافور بأكمله؟"، وسيبرر له محمد بن عاصم تردّي الاقتصاد بأنه رقص من عدله طربا.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)