تحتفظ المصنفات الجغرافية العربية الإسلامية بشهادتين مهمتين عن جزيرة صقلية، واحدة كتبها الرحالة والجغرافي الشهير ابن حوقل في العام 950 ميلادي، حين كانت الجزيرة إمارة عربية تحت حكم السلالة الكلبية، والثانية كتبها الرحالة الأندلسي ابن جبير في طريق عودته من الحج في العام 1183 ميلادي، وكانت تحت حكم سلالة روجار النورماني، حيث كانت غالبية السكان لا تزال من المسلمين.
عاشت الإمارة الكلبية في صقلية حوالي القرنين من الزمان، وكانت تتبع اسمياً في البداية للأغالبة في تونس وأفريقيا، ثم للفاطميين في القاهرة، وحين سقطت بيد النورمان، كان خطباء المساجد يدعون في خطبة الجمعة للخليفة العباسي في بغداد.
وتعد شهادة ابن حوقل عن الجزيرة واحدة من أندر الشهادات التي تضمها المصنفات الجغرافية العربية القديمة، فهي تصف الحياة العامة على الجزيرة، وتغطي الجانب الذي لم يلتفت له المؤرخون، رغم لهجة الهجاء القاسية التي كتب بها شهادته، ولعل سبب هذه العادات المستهجنة من جانب ابن حوقل طبيعة الجزيرة القلقة كونها كانت ثغراً من ثغور القتال بين المسلمين والبيزنطيين.
وقد احتاجت الجزيرة إلى عقود طويلة من الاقتلاع والتهجير حتى تغير هويتها العربية الإسلامية، إذ لم يتم ذلك إلا في العام 1240 ميلادي حين تم إجلاء المسلمين الرافضين لاعتناق المسيحية نهائياً عن الجزيرة، تماماً كما سيحصل للموريسكيين في الأندلس بعد ذلك بنحو أربعة قرون.
يشير ابن حوقل إلى أنه صنف كتاباً حول صقلية ضمنه أخبار المدينة وعادات أهلها سماه "كتاب صقلية"، غير أنه لايزال مفقوداً حتى الآن، وربما يعثر عليه في وقت ما، ولكنه بين في معرض حديثه عن المدينة في كتابه "صورة الأرض"، أنه ركز في كتابه على الجوانب المجتمعية من حياة الجزيرة التي رآها مستقبحة، من أوجهها كافة.
ولد أبو القاسم محمد بن علي الموصلي النصيبيني الشهير بابن حوقل، في بغداد أواسط القرن الرابع للهجرة، وأقبل على السفر والتجوال في البلاد بقصد التجارة، واستمرت رحلته حوالي 28 عاماً وضع في نهايتها كتابه الأشهر "المسالك والممالك والمفاوز والمهالك" الذي قال في مقدمته:
"بدأت سفري هذا من مدينة السلام (بغداد) يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وأنا من حداثة السن وغرته، وفي عنفوان الشباب وسكرته، قوي البضاعة، ظاهر الاستطاعة".
إلى أن يقول: "وفصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً وصقعاً صقعاً وكورة كورة لكل عمل. وبدأت بذكر ديار العرب، فجعلتها إقليماً واحداً، لأن الكعبة فيها ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي"، وقد اكتفى ابن حوقل بالتلميح إلى الأقاليم والبلدان الخارجة عن دائرة الإسلام، وهذا عيب من عيوب الكتاب.
عاش ابن حوقل طويلاً في قرطبة، في عهد عبد الرحمن الثالث؛ أي في عهد ازدهار خلافة الأمويين في الأندلس، والتقى الإصطخري عام 951 ميلادي، فأعجب به الإصطخري وسأله إصلاح كتابه "المسالك والممالك"، وقد وضع ابن حوقل خارطة للأرض تعد واحدة من أدق الخرائط في تاريخ الجغرافية البشرية.
وثمة معلومة أوردها العلامة رينهارت دوزي صاحب كتاب "تاريخ المسلمين في إسبانيا" أن ابن حوقل كان يتجسس لصالح الفاطميين أثناء رحلته الطويلة، ولا نعلم ما الذي قصده دوزي بإطلاق هذا الحكم، ولكننا نعرف أن العزيز بالله الفاطمي كان مهتماً أشد الاهتمام بالأدب الجغرافي، وأهدى له اثنان من كبار الجغرافيين المسلمين مؤلفيهما، وهما المقدسي البشاري صاحب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، والحسن بن أحمد المهلبي صاحب "الكتاب العزيزي" في المسالك والممالك، ولا شك أن الغاية التجارية كانت تقف وراء هذه المؤلفات، إذ اشتهر الفاطميون باحتكارهم للتجارة عبر حوض البحر المتوسط لعقود طويلة، وليس الدعوة للفاطميين كما يقول دوزي، فابن حوقل والمقدسي البشاري كانا على مذهب مخالف للمذهب الفاطمي!
حظي كتاب ابن حوقل باهتمام كبير من المستشرقين، فظهرت له طبعات عدة أشهرها طبعة المستشرق الهولندي الشهير دي غويه عام 1873 في لندن، معتمداً في ذلك على نسختي خزانتي لايدن وأكسفورد.
وقد اتيحت لنا فرصة الاطلاع على مخطوطة اسطنبول المحفوظة في متحف "طوبقابي سراي" وهي من خزانة السلطان أحمد رقم 3346، ومنها أخذنا الوصف التالي لصقلية.
وصف عام
يبدأ ابن حوقل بوصف جزيرة صقلية وصفاً عاماً فيقول: "هي جزيرة على شكل مثلث متساوي الساقين زاويته الحادة من غربي الجزيرة، طولها سبعة أيام في أربعة أيام. وهي في شرقي الأندلس في لجّ البحر وتحاذيها من بلاد المغرب بلاد إفريقية وباجة وطبرقة إلى مرسى الخرز، وغربيها في البحر جزيرة قرشقة، ومن جنوب صقلية جزيرة قوسرة، وعلى ساحل البحر شرقيها من البر الأعظم الذي عليه قسطنطينية مدينة ريو ثم نواحي قلورية، والغالب عليها الجبال والقلاع والحصون وأكثر أرضها مسكونة مزروعة، وليس لها مدينة مشهورة معروفة غير المدينة المعروفة ببلرم، قصبة صقلية، وهي على نحو البحر وهي خمس حارات متجاورة غير متباينة ببعيد مسافة، وإن كانت حدودها ظاهرة بينة".
ويقول "عليها سور عظيم من حجارة، شامخ منيع، يسكنها التجار، وفيها مسجد الجامع الأكبر، وكان بيعة للروم قبيل فتحها. وفيه هيكل عظيم ويقول بعض المنطقيين إن حكيم يونان، يعني ارسطوطاليس، في خشبة معلّق في هذا الهيكل الذي قد اتخذه المسلمون مسجداً، وإن النصارى كانت تعظم قبره وتستشفي به لما شاهدت يونان عليه من إكباره وإعظامه".
وحول المسجد يسترسل قائلاً إن "السبب في تعليقه بين السماء والأرض ما كان الناس يلاقونه عند الاستسقاء والاستشقاء والأمور المهمة التي توجب الفزعة إلى الله تعالى، والتقرب اليه في حين الشدة وخوف الهلكة، وعند وطء بعضهم لبعض، وقد رأيت خشبة يوشك أن يكون هذا القبر فيها".
رباطات الصوفية
ثم يقول إنه بمدينة الخالصة رباطات كثيرة للمتصوفين على ساحل البحر، لكنه ينتقد مرتاديها ويقول إنها" مشحونة بالرياء والنفاق والبطّالين والفساق ومتمرّدين، شيوخ وأحداث أغثاث رثاث قد عملوا السجادات منتصبين لأخذ الصدقات وقذف المحصنات، نقم منزَّلة وبلايا شاملة وحتوف مصبوبة منصوبة، وأكثرهم يقوِّدون ومنهم من لا يرى ذلك لشدة الرياء والسمعة، وأكثرهم بالزور تطوعاً يشهدون مع جهل لا يفرق فيه بين فرض الوضوء وسنته، ويقصدهم من أعوزه المكان لبطالته والموضع لعيارته فيؤونه وربما شاركوه بتافه من المأكول على أحوال يقبح ذكرها". ويقول إن تأسيس هذه الرباطات "كان على غير التقوى حسب ما أسست عليه المساجد المتقدم ذكرها، فهارت وباد أهلها بما جنوه من الفتن والعصيان وشق عصا السلطان، والله أعلم".
وصف الخالصة
ينتقل ابن حوقل لوصف مدينة الخالصة المقابلة لبالرمو فيقول: "الخالصة ذات سور من حجارة، وليس كسور بلرم يسكنها السلطان وأتباعه، وفيها حمامان ولا أسواق فيها ولا فنادق، وفيها مسجد جامع صغير مقتصد، وبها جيش للسلطان ودار صناعة للبحر والديوان، ولها أربعة أبواب من قبولها ودبورها وغربها. وشرقيها البحر وسور لا باب له".
ثم يتحدث عن حارة تعرف بحارة الصقالب، وهي بحسب وصفه أكبر من المدينتين اللتين ذكرهما قبلاً وأجلّ، والصقالب أو الصقالبة هم السلاف الشماليون الذين كان مسلمو الأندلس وصقلية يتخذونهم عبيداً في تلك الأزمنة، ويبدو أنه كان لهم حي خاص بهم بمعزل عن المسلمين.
ويقول ابن حوقل إن مرسى البحر في حارة الصقالبة هؤلاء "وبها عيون جارية بينها وبين صقلية مياه كالحد بينهما".
وينتقل ابن حوقل للحديث عن حارة تعرف بحارة مسجد ابن سقلاب، ويقول إنها "كبيرة أيضاً، وليس بها مياه جارية وشرب أهلها من الآبار، وعلى طرفها الوادي المعروف بوادي عباس، وهو عظيم كبير ومطاحنهم عليه كثيرة وبساتينهم وأجنتهم غير منتفعة به".
أما الحارة الجديدة فيقول إنها "تقارب حارة المسجد، وليس بينهما فرق ولا فاصلة ولا عليهما ولا على حارة الصقالبة سور".
بعد ذلك ينتقل للحديث عن أسواق المدينة فيقول: "أكثر الأسواق فيما بين مسجد ابن سقلاب والحارة الجديدة، كسوق الزّياتين بأجمعهم، والدّقاقين، والصيارفة، والصيادل، والحدادين، والصياقلة، وأسواق القمح، والطرازيين، والسمّاكين، والأبزاريين، وطائفة من القصابين، وباعة البقل، وأصحاب الفاكهة والريحانيين، والجزارين، والخبازين، والجدالين، وطائفة من العطارين، والأساكفة، والدباغين، والنجارين، والغضائريين، والخشابين خارج المدينة.
ثم يستطرد قائلاً إنه "ببلرم طائفة من القصابين والجزارين والأساكفة، وبها للقصابين دون المائتي حانوت لبيع اللحم، والقليل منهم في المدينة برأس السماط، ويجاورهم القطّانون والحلاّجون والحذاؤون وبها غير سوق صالح".
300 مسجد رغم صغر المساحة
ويصف ابن حوقل المساجد في بالرمو والخالصة، ويقول إنما "يدل على قدرهم وعددهم صفة مسجد جامعهم ببلرم، ذلك أني حزرت المجتمع فيه إذا غصّ بأهله بلغ سبعة آلاف رجل ونيفاً، لأنه لا يقوم فيه أكثر من ستة وثلاثين صفاً للصلاة وكل منها لا يزيد على مائتي رجل".
ثم يضيف مستطرداً: "وبصقلية من المساجد في مدينة بلرم والمدينة المعروفة بالخالصة والحارات المحيطة بها من وراء سوريهما عامرة، أكثرها قائمة على عروشها بحيطانها وأبوابها نيّف وثلاثمائة مسجد، يتواطأ أهل الخبرة منهم في علمها ويتساوون في معرفتها وعددها، وبظاهرها مما حف بها ولاصقها وبين أجنتها وأبراجها، ومحال كانت متصلة بالأقرب فالأقرب منها على الوادي المعروف بوادي عباس، ومجاورة للمكان المعروف بالمعسكر..".
ويضيف مستدركاً: "لم أر لهذه العدة من المساجد بمكان ولا بلد من البلدان الكبار التي تستولي على ضعف مساحتها شبهاً، ولا سمعت من يدّعيه إلا ما يتذاكره أهل قرطبة من أن بها خمسمائة مسجد. ولم أقف على حقيقة ذلك من قرطبة وذكرته في موضعه على شك مني فيه، وأنا محققه بصقلية لأني شاهدت أكثره، ولقد كنت واقفاً ذات يوم بها في جوار دار أبي محمد عبد الواحد بن محمد المعروف بالقفصي الفقيه الوثائقي، فرأيت من مسجده في مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصري، ومنها شيء تجاه شيء، وبينهما عرض الطريق فقط، وسألت عن ذلك فأخبرت أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم، كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه، لا يشركه فيه غير أهله وغاشيته، وربما كانا اخوان منهم متلاصقة داراهما متصاقبة الحيطان، وقد عمل كل واحد منهما مسجداً لنفسه ليكون جلوسه فيه وحده".
ثم يعود ابن حوقل لوصف مدينة باليرمو التي يقول عنها إنها مدينة قديمة "أشهر أبوابها باب البحر، وسمي بذلك لقربه من البحر، ويليه باب أحدثه أبو الحسين أحمد بن الحسن بن أبي الحسين لشكوى أهل هذه الناحية بُعد مخرجهم، فعمله على نشز مطل على نهر وعين تدعى عين شفاء، وبها يعرف هذا الباب وقتنا هذا، ولمن قرب منه مرفق بهذه العين. ثم باب يعرف بشنتغات وهو باب قديم وإليه باب يعرف بباب روطه، وروطه نهر كبير يهبط من هذا الباب إليه، وأصله تحت هذا الباب وفيه ماء صالح عليه أرحية كثيرة متقاطرة. ثم باب الرياض وهو أيضاً محدث استحدثه أبو الحسين أحمد بن الحسن، وكان بجواره باب يعرف بابن قرهب في موضع غير حصين، وكانت المدينة قوتلت عليه قديماً فدخل على أهلها منه معرّة وضرر جسيم، فسدّه أبو الحسين وأزاله. وبجواره باب الأنباء وهو أقدم أبوابها، وإليه باب السودان تجاه الحدادين ثم باب الحديد ومنه المخرج الى حارة اليهود، وإليه باب استحدثه أبو الحسين أيضاً، ولم يسمّ باسم ويخرج منه الى حارة أبي جمين، وجميعها تسعة أبواب".
ويقول إن "هذه المدينة مستطيلة ذات سوق قد أخذ من شرقها إلى غربها يعرف بالسماط، مفروش بالحجارة، عامر من أوله الى آخره بضروب التجارة".
ويطيف بها عيون كثيرة منصبّة من غربها إلى شرقها، ويكون مقدارها ما يدير رحى، وعلى مائها غير رحى تطحن في غير مكان، ويجاور مصب ماء هذه العيون من حيث بدؤ مسيلها الى حيث مصبها في البحر أراضٍ كثيرة، تغلب عليها السباخ وآجام فيها قصب فارسي، وبحائر ومقاث صالحة".
بعد ذلك يلفت النظر إلى زراعة البردي الذي يصنع منه ورق الكتابة، إذ يقول: "وفي خلال أراضيها بقاعٌ قد غلب عليها البابير، وهو البردي المعمول منه الطوامير، ولا أعلم لما بمصر من البابير نظيراً على وجه الأرض، إلا ما بصقلية منه وأكثره يفتل حبالاً لمراسي المراكب، وأقله يعمل للسلطان منه طوامير القراطيس ولن يزيد على قلة كفايته".
ويتحدث ابن حوقل عن شرب أهل المدينة، "وهم المجاورون لسورها من نحو باب الرياض إلى نحو عين شفاء من مياه هذه العيون، وباقي أهلها وأهل الخالصة وجميع أهل الحارات شربهم من آبار دورهم خفيفاً كان أو ثقيلاً من الماء، ويلذ لهم على كثرة المياه العذبة الجارية عندهم، وذلك لكثر أكلهم البصل".
ويضيف القول "وشرب أهل المعسكر فمن العين المعروفة بالغربال وماؤها صالح. وبالمعسكر عين تعرف بعين التسع دون الغربال في كثرة الماء، وعين تعرف بعين أبي سعيد دونها، وعين تعرف بعين أبي علي، وكان من بعض ولاتهم، فهي مضافة إليه".
عين الحديد
ويشير رحالتنا إلى عين الحديد التي كان السلطان يستثمرها لنفسه "يصرف ما يستثار منه لحاجته في مراكبه وقرسطياته"، ويقول: "كان هذا المعدن لبني الأغلب يجدي عليهم الكثير، وهو بقرب قرية تعرف ببلهرا".
ثم يتابع حديثه عن الينابيع والأنهار التي "تتفجر منها وهي تمد وادي عباس وتقويه وهي كثيرة البساتين والكروم.. ويحيط بالبلد عيون غير مشهورة وينتفع بمياهها كالقادوس في ناحية القبلة، وبها الفوارة الصغيرة والفوارة الكبيرة على أنف الجبل من البلد، وهي أغزر عيونهم ماء وتنصرف هذه المياه الى أجنتهم. ولقرية البيضاء عين حسنة تعرف بالبيضاء وتصاقب الغربال والغربية، وشرب الناحية المعروفة ببرج البطّال من العين المعروفة بعين أبي مالك، وأكثر مياه الدبور من أراضي المدينة لأجنّتهم فبالسواني. ولهم أجنة كثيرة الخير وبساتين أعذاء بخوس لا تسقى كالشأم، وأكثر مياه البلد والحارات من الآبار ثقيلة غير مرئة، وإنما صرفهم إلى شربها رغبة عن شرب الماء الجاري العذب قلة مروآتهم وكثرة أكلهم للبصل، وفساد حواسهم بكثرة تغذّيهم بالنيّ منه وما فيهم من لا يأكله كل يوم أو يؤكل في داره صباح مساء من سائر طبقاتهم، وهو الذي أفسد تخيلهم وضر أدمغتهم وحير حواسهم وغير عقولهم ونقص أفهامهم وبلّد معارفهم، وأفسد سحنة وجوهـهم وأحال أمزجتهم حتى رأوا الأشياء أو أكثرها على خلاف ما هي به".
ويستشهد ابن حوقل بأطباء عصره للتدليل على أن تناول البصل يفسد الدماغ، ويقلّل الإحساس بملوحة الماء. ويقول: "هذه قضية عقلية، فأما نتيجتها فليس بالبلد عاقل ولا فاضل ولا عالم بالحقيقة بفنّ من فنون العلم، ولا ذو مروءة ولا متدين والغالب عليه الرعاع، وأكثر أهله سقّاط أوضاع لا عقول لهم ولا دين كامل".
مجانين المعلمين
ويسترسل رحالتنا في الحديث عن المشاكل اللغوية التي صادفها على الجزيرة بسبب من أسماهم بـ"مجانين المعلمين وحمقاهم"، ويضيف القول: "الغالب على البلد المعلمون، والمكاتب به في كل مكان وهم فيه على طبقات مختلفة ومنازل شتى متباينة من الصراع والخباط على ما يفوق جنون معلمي كل بلد وحمق كل ناحية، حتى أنهم المتكلمون على السلطان في سيره واختباراته والإطلاق بالقبائح من ألسنتهم بمعائبه وإضافة محاسنه إلى قبائحه".
ويقول إن بالبلد منهم "ما يقارب ثلاثمائة معلم ولم ينقص من ذلك إلا القليل، وليس كهذه العدة بمكان من الأماكن ولا في بلد من البلدان، وإنما توافرت عدتهم مع قلة منفعتهم لفرارهم من الغزو ورغبتهم عن الجهاد. وذلك أن بلدهم ثغر من ثغور الروم وناحية تحادّ العدو والجهاد فيهم لم يزل قائماً والنفير دائماً منذ فتحت صقلية، وولاتهم لا يفترونه وإذا نفروا لم يفتروا بالبلد أحداً إلا من بذل الفدية عن نفسه أو أقام العذر في تخلفه مع رابطة السلطان، وكان قد سبق الرسم بإعفاء المعلمين قديماً بينهم من النوائب وحملت عليهم المغارم، ففزع الى التعليم بُلههم وحسّنه لديهم جهلهم مع قلة الانتفاع به والجدوى منه ؛ فإن فيهم الكثير تمر به السنة فلا يصيب من جميع صبيانه وهم كثير عشرة دنانير، فأي منزلة أقبح وصورة أخسّ واوتح من رجل باع ما اوجب الله تعالى عليه من الجهاد وشرفه والغزو وعزّه بأخس منزلة وأوضح حرفة واسقط صنيعة؟".
وكمثال على كلامه يقول: "لقد رأيت ولداً كان لإسحاق بن الماجلي المعلم القاضي المتقدم ذكره يخطبهم نحو حولين، يجزم الأسماء مع الصلة ويجرّ الأفعال من أول خطبته إلى آخرها. وخاطبت أديباً كان من أهلها يسعى ويدّعي الدراية بجميع الأحوال، وقد نصب هذا الخطيب ما لم يسم فاعله أو رفع منصوباً، وأظنه كان مفعولاً به فقلت: أما سمعت الخطيب وما كان منه؟ وذكرته له وقد ذهب عني اللفظ فقال: كأنه والله يا سيدي كما تقول غير أنا نحن لا نأبه لمثل هذا".
كتاب صقلية وفرقة المشعمذين
ويشير ابن حوقل إلى الكتاب الذي وضعه عن صقلية، والذي قال إنه جعله على عشرة أبواب، بدأ منها بذكر ما يتفاخر به أهل الأمصار والقبائل والبلدان، وما يلحقهم من الفضائل وكيفية لحاقها بالكور والمدن، والرذائل المقصرة ببعضها عن الفخر والطيب والحسن.
وقال إنه أطلق عليه اسم "كتاب صقلية"، حيث لم يترك لهم من فضيلة ورذيلة إلى "جميع ما خصُّوا به ومنعوه وأعطوه وما حرموه، الى غلظ طباعهم وسوء أخلاقهم وما انفردوا به من المطاعم المنتنة والأعراض القذرة الدرنة، وغلبة كثرة الجفاء وطول المراء". وقال: "سميت جميع معلميهم الى ما وصل إليّ من أخبارهم ومحلهم في الرقاعة وخلعهم على مر الأيام للسلطان والطاعة".
ويخص فرقة منهم أطلق عليها اسم المشعمذين بفصل كامل إذ وصف حال هذه الفرقة التي لا تشبهها "فرقة من فرق الإسلام ولا نحلة من النحل، ولا في بلد من البلدان ولا بدعة من البدع ولا مشاكلة لنحلة في دين من الأديان".
وقال إن هؤلاء المشعمذين هم "أكثر أهل حصونهم وباديتهم وضياعهم، رأيهم التزويج إلى النصارى، على أن ما كان بينهم من ولد ذكر لحق بأبيه من المشعمذين، وما كانت من أنثى فنصرانية مع أمها، لا يصلون ولا يتطهرون ولا يزكون ولا يحجون. وفيهم من يصوم شهر رمضان ويغتسلون إذا صاموا من الجنابة، وهذه منقبة لا يشركهم فيها أحد وفضيلة دون جميع الخلق، أحرزوا بها في الجهل قصب السبق".
وقال: "لقد أعددت كتابي هذا بذكرهم فيه ولكن نفوس أهل النبل وقلوب أهل الفضل متطلعة إلى علم الكل، ولذكرها في الخزائن منزلة ليـست على ما هي به في الحقيقة".
غلال الجزيرة
بعد ذلك يتحدث ابن حوقل عن غلال الجزيرة وخصبها فيقول إن الخصب والسعة كانا في قديم ما مضى، وأنه دخلها وقد استحالت جميع أمورها من الخصب الى الجدب، وأنها جزيرة "لم تختص بوجه من فضائل البلدان غير القمح والصوف والشعر والخمر وصبابة من القند، إلى شيء من ثياب الكتان".
وأضاف القول إن "جميع ما تقع إليه الضرورات وتدفع الحاجة اليه من سائر الطلبات مجلوب الى بلدهم ومحمول إلى جزيرتهم" التي "جمعت مع فساد عقول أهلها وأديانهم فساد التربة".
ولفت النظر إلى أن "القمح والحبوب، ولا يحول الحول عليها عندهم إلا وقد فسدت وربما ساست في الأنادر قبل دخول المطامير والأهراء".