كبرتُ ضمن ثقافتَيْن، عربية وكردية. عند الفجر، كان والد والدي يقرأ القرآن، ويُجبرني على تكبير لقمة الخبز في صحن اللبن. كان صوت الماء الداخل إلى أنفه، مسحوبًا بضغط الرئتين عند الوضوء، احتجاجًا على بقائي نائمًا حتى الآن.
في حي "العنترية" في القامشلي في عام 1995، كان صوته وهو يقرأ القرآن، لا يشبه العربية، ولا يشبه الكردية. فالمعنى العربي واضح، واللحن الكردي واضح. كان شيخًا أمّيًا، يحاول أن يعلِّم طفلًا أميًّا. استبدل الحروف بأشياء أعرفها، فـ"الياء" إبريق شاي، و"السين" مشطٌ، و"اللام" عِكّازه.
ابنه، والدي، ضليعٌ في اللغتين. في البيت، ترنُّ في أذني الصورة الشعرية بصوته، والمنشورة في مجلّة "هاوار"، أهمّ المجلات الأدبية الكردية في القرن الماضي، والتي كان يصدرها جلادت بدرخان من مدينة دمشق نفسها، صارت لاحقًا بمدينة "البويجية"، عام 1932 (توقّفت في عام 1945 بعد 24 عددًا)، إذْ تقول الصورة التي سأحاول ترجمتها الآن: "يترنّح رأس البلبل في ساعات الصباح الأولى بسبب السهر، فيشعرُ ببرودة الندى بين قدميه، ويذهب النعاس. أميلُ إليكِ، كما يميل جسد البلبل من التعب".
يحتفظ والدي بأعداد المجلّة كمُهرّب آثار يخفي في بيته رأس نفرتيتي، فالأعداد نادرة، والمحتوى ساحر.
في المدرسة، بدأتُ بالعربية. بسبب الأيديولوجيا القومية التي هيمنت على سورية، فإنّ مناهج تدريس اللغة العربية، كانت على درجةٍ عاليةٍ من الحرفية. وهذه المناهج تساعدك في تشكيل لغة، توضِّح لك سخف لغة النظام في كتب التربية القومية الاشتراكية.
بعد أن أصبحتُ ابنًا بالمعنى الحرفي للغتين، أدركت سخف المقارنات اليومية التي أسمعها مليار مرّة، حول "سحر لغة" و"بشاعة لغة" و"جمال لغة" و"عمق لغة"، وهي مقارنات يشعر ببطلانها فورًا من يمتلك والدتين لغويتين. فلا توجد لغة لا تستطيع أن تقول فيها كل ما تريده. ولا توجد فكرةٌ في أيّ مكان في العالم، لا تُقال بجميع اللغات.
طفلٌ يتأتئ في داخله لغتان، لا يعرف بأيّ منهما يفكّر. فكلّ لغة عالمُ تفكيرِ خاص، هل أقول بالعربية ما أفكر فيه بداخلي بالكردية، أم أقول بالكردية ما أفكّر فيه بداخلي بالعربية. تعايشت اللغتان في داخلي بشكل أفضل من التعايش الحالي في "شرق الفرات".
بالمناسبة، "شرق الفرات" هي تسمية لم تتولّد داخل أي لغة. فكلمة "الجزيرة" التي تدلُّ على شمال شرق سورية، على الأقلّ، تحتوي استعارة لغوية، وكلمة "القامشلي" تاريخها اللغوي غني جدًا. "شرق الفرات" هي تسمية جغرافية وصفية عسكرية، قرّرها غالبًا ضبّاط أميركيون وروس، في غرفة عمليات سرّية أثناء "محاربة الإرهاب".
أنا ابن للغتين، جَدٌّ يبكي أثناء سورة يوسف، وأبٌ يخفض صوته عند انتشائه بالصورة الشعرية، خوفًا من رجال المخابرات.