تدل الحرب الكلامية الحادة والمتصاعدة بين واشنطن وطهران، على أن البلدين باتا على حافة الهاوية، في ظل تصريحات عنيفة وتهديدات أميركية بـ"تداعيات لم يختبرها سوى قلة عبر التاريخ"، مقابل تحذير إيراني من "أم المعارك"، من دون أي مؤشرات على إمكان تهدئة قريبة، مع سعي واشنطن لرفع الضغوط على طهران عبر إعادة العقوبات ومحاولة وقف الصادرات النفطية الإيرانية للعالم، مقابل محاولة الجمهورية الإسلامية وضع خطوط حمر خارجية بالتلويح بورقة مضيق هرمز، إضافة إلى السعي لاستغلال ذلك داخلياً لرص الصفوف في مواجهة أعداء الخارج.
وبينما تشير كل المعطيات إلى أن الصراع بين البلدين متجه إلى تصعيد أكبر، يتذكّر البعض الحرب الكلامية التي اندلعت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون قبل أن تخف حدتها ويعقد الزعيمان قمة تاريخية في 12 يونيو/حزيران الماضي، على الرغم من أن هذا السيناريو يبدو بعيداً عن الحلبة الأميركية-الإيرانية. الصراع المتصاعد لم يغب عنه حضور أطراف أخرى، إذ لم يتأخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للإشادة بموقف ترامب "الصارم ضد عدائية النظام الإيراني"، قائلاً أمس، إن "إيران هي العدو الرئيسي لإسرائيل". في المقابل، فإن الموقف الأوروبي الأول لم يحد عن محاولة دول القارة العجوز التوصل لتوافقات مع طهران للإبقاء على الاتفاق النووي، إذ جاء تعليق الخارجية الألمانية أمس على التراشق الأميركي-الإيراني بالقول إن تهديدات الحرب "لا تفيد أبداً".
وكان الانطلاق الفعلي لهذه المواجهة، بدأ بخروج أميركا من الاتفاق النووي في مايو/أيار الماضي، وإقرار إعادة العقوبات على طهران بموجب ذلك، لتُفتح ساحة التراشق بين الطرفين، مع زيادة الولايات المتحدة ضغوطها وسعيها لتصفير صادرات النفط الإيرانية، وهي الخطوة التي من شأنها ضرب اقتصاد البلاد إذا ما دخلت حيز التنفيذ العملي، ما جعل طهران تستخدم أدوات التهديد مجدداً وتتحدث عن وجود كل السيناريوهات والخيارات على الطاولة للتعامل مع هذا الملف.
النهج التصعيدي الأميركي تابعه وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي أكد أن بلاده ليست خائفة من فرض عقوبات تستهدف النظام الإيراني "على أعلى مستوى"، معتبراً أن هذا النظام هو "كابوس على الشعب الإيراني". وقال بومبيو في كلمة له الأحد أمام الجالية الإيرانية في كاليفورنيا، إن الولايات المتحدة تأمل أن تخفّض كل دول العالم وارداتها من النفط الإيراني إلى "أقرب نقطة ممكنة من الصفر" بحلول الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، محذراً من أنه في حال لم يحصل ذلك فإن هذه الدول تعرّض نفسها لعقوبات أميركية. ووجّه بومبيو انتقاداً للقادة الإيرانيين وشبههم "بالمافيا". وقال إن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف "مجرد واجهة برّاقة لبراعة آيات الله في الاحتيال الدولي".
التصعيد على الضفة الأميركية، سرعان ما ردت عليه طهران بشكل عنيف، فوصف قائد قوات التعبئة المعروفة باسم "البسيج"، غلام حسين غيب برور، التهديدات الأميركية بالحرب النفسية، قائلاً إن "الولايات المتحدة سترتكب خطأ فادحاً إذا قررت اتخاذ أي خطوة ضد بلاده، وعلى أولئك المتأثرين بحرب الرئيس الأميركي النفسية أن يعلموا أن أميركا لن ترضى بما هو أقل من القضاء علينا"، مضيفاً أن "الإيرانيين والقوات المسلحة سيصمدون بوجه أعدائهم، ولن يتنازلوا عن حقوقهم".
ولم تتردد طهران في تكرار الحديث عن إغلاق مضيق هرمز، على الرغم من صعوبة تحقق هذا السيناريو عملياً كونه سينعكس عليها بتبعات خطرة. وقال مساعد وزير الخارجية عباس عرقجي، في لقاء مع تلفزيون العالم الإيراني، إن لدى بلاده العديد من الخيارات لمواجهة العقوبات النفطية، موضحاً أن طهران تحاور الأطراف الغربية في الوقت الراهن لتضمن بيع نفطها واستلام العائدات وتحديد آلية واضحة لتحقق ذلك. وأضاف أنه "في حال لم تستطع إيران تصدير نفطها فهذا لا يعني أنها ستقف مكتوفة الأيدي، وإذا حصل ذلك ستستخدم أحد الخيارات المتاحة أمامها، والتحكّم بمضيق هرمز واحد منها".
في السياق نفسه، كتب أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، محسن رضائي، على "تويتر" متوجهاً لترامب بالقول إن عليه الحذر بدلاً من إطلاق تحذيرات وتهديدات "جنونية" لروحاني، مضيفاً إن "لدى أميركا أكثر من خمسين ألف عسكري يتواجدون في مرمى النيران الإيرانية، فعليك أن تحذر". كما جاءت التصريحات الصادرة على لسان العسكر أشد في لهجتها في هذا الصدد، فبعد قائد الحرس الثوري وعسكريين آخرين، قال قائد القوات البرية التابعة للجيش الإيراني أمير كيومرث حيدري، "إما أن يكون مضيق هرمز متاحاً أمام الجميع أو ممنوعاً عليهم"، مشيراً إلى أن هذا التحذير ليس حديث العهد ولطالما استخدمته إيران، وتكرره اليوم.
وأصدر خامنئي حينها موقفاً واضحاً من العرض الأميركي الذي دعا إيران لتفاوض مشروط، وقال إنه لا يمكن الحوار مع الولايات المتحدة فهي ليست أهلاً للثقة، معتبراً أن ذلك سيكون خطأ كبيراً وأن لدى أميركا عداوة عميقة ومشكلة متأصلة مع النظام الإسلامي في إيران ومع قدرتها الإقليمية والنووية، مؤكداً أهمية ما جاء على لسان روحاني نفسه حين كان في جولته الأوروبية الأخيرة والذي لوّح بورقة إغلاق مضيق هرمز إذا ما ضاق الخناق على طهران نفطياً، فأكد المرشد الإيراني أن هذا الكلام يمثّل وجهة نظر النظام بأكمله.
ولم تخرج تصريحات بقية المسؤولين عن هذا السياق، مع أن روحاني الملقب بالشيخ الدبلوماسي والذي خاض مفاوضات مضنية مع الغرب واستطاع فتح حوار ثنائي علني مع الولايات المتحدة، قرر التصعيد أكثر من ذلك لأهداف خارجية وداخلية على حد سواء. وقال متوجهاً لترامب "لا تلعب بذيل الأسد فذلك سيدفعك للندم"، وذكر أيضاً أنه "ينبغي على أميركا أن تعلم أنّ السلام مع إيران هو السلام الحقيقي، وأن الحرب معها ستكون أم كل الحروب".
في الداخل الإيراني، فإن لهذه الحرب الكلامية دوراً كبيراً، سواء على صعيد تعامل السلطات مع الشارع الإيراني الذي يترقب عودة العقوبات الأميركية في أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني المقبلين بقلق بالغ، أو على صعيد معادلات التعامل بين التيارات السياسية المختلفة في مراكز صنع القرار. ردُّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، على تصريحات بومبيو، صبّ في سياق المراهنة على اتحاد الإيرانيين ومواجهتهم الضغط الأميركي، خصوصاً حديث بومبيو عن أن "حلم التخلص من النظام الإيراني سيصبح حقيقة". فوصف قاسمي ما جاء على لسان الوزير الأميركي بالسخيف والكاذب، واعتبر أن تحقيق ذلك غير ممكن، لأن الإيرانيين لا يثقون بواشنطن ولا يقبلون الاملاءات. وركز في بيان له على الضغوط التي تستهدف الشارع بالدرجة الأولى، وعلى وصف الإيرانيين بالإرهابيين ومنعهم من السفر للأراضي الأميركية.
كما أن رئيس السلطة القضائية صادق آملي لاريجاني اعتبر أن أميركا ورئيسها واهمان، فهم يسعون لفتح اتصالات مع طهران، ولا يدركون أن ضغوطهم تسبّبت بانسجام داخلي أكبر. وفي جانب آخر، كرر لاريجاني إشادته بروحاني، وهو ما لم يكن متوقعاً قبل أشهر معدودة من الآن، فلطالما تبادل الرجلان الانتقادات واختلفا على الصلاحيات. فوصف رفع السقف من قبل الرئيس بالخطاب المحكم الذي يبعث على الفخر. ووافقه الرأي محسن رضائي، وهو ما تكرر على لسان نواب محافظين اعتبروا جميعاً أن بوصلة روحاني قد أخذت الاتجاه الصحيح. وهذا ما يزيد من مؤشرات اقتراب الرئيس المعتدل نحو التيار المحافظ، وابتعاده رويداً رويداً عن الإصلاحيين، فلطالما لعبت مسألة العلاقات مع أميركا دوراً في تحديد طبيعة تحالفات الداخل كذلك.