إيران تكسب معركةً لم تقع

25 يونيو 2019
+ الخط -
مع أن إيران ليست ندّاً للولايات المتحدة بأي معيار، ولا يمكن مقارنة قدراتها الذاتية بما لدى أهم دولة في العالم من فائض قوة، إلا أن هذه الدولة العالمثالثية المحاصرة حققت كسباً عسكرياً ثميناً في معركةٍ لم تقع، وسجلت نصراً سياسياً أولياً، ليس بفضل طفرة تكنولوجية مفاجئة، ولا بفعل قوةٍ حربيةٍ خارقة، وإنما جرّاء سوء إدارةٍ أميركية غشيمة، وذلك عندما أقدمت الجمهورية الإسلامية على مجازفةٍ محسوبة، وأسقطت طائرة تعد فخر الصناعات الجوية الأميركية، في تحدٍّ لا يخلو من الجرأة.
ومع أن المواجهة بين إيران والولايات المتحدة لا تزال قائمة، ومآلاتها مفتوحة على أشد الاحتمالات خطورةً، وليس هناك ما يشير إلى أن هذه الجولة هي النهاية السعيدة المرجوّة للإيرانيين، غير أن الحصيلة المبكرة لاستراتيجية اللعب على حافّة الهاوية، المعتمدة لدى نظام الملالي، أثبتت جدواها على نحوٍ أكثر نجاعةً من تكتيكات الاتكال على الوكلاء الذين استنفدوا أنفسهم في إطار سياسة الحرب غير المتماثلة، وقدّموا على مدى الأشهر القليلة الماضية أفضل ما لديهم من خدماتٍ ممكنة، فقد ارتطمت إيران بجدار الحديد والنار الأميركي، من دون أن تقوم القيامة، ونجحت، عبر توظيف مزيجٍ متعادلٍ من عنصر التهديد والتهويل المبالغ به من جهة، وعامل الاستخدام الانتقائي للقوة من جهة ثانية، في إملاء نفسها بفاعلية، ومنحت خطابها قدراً كافياً من المصداقية، وكأن لسانها حالها يقول: يمكن معالجة الأزمة المتفاقمة بإيجاد أزمةٍ موازية، شرط أن تكون تحت السيطرة، وهو ما تستطيع إيران الرهان عليه في المدى القريب، إلا أنها لا تقدر على الإمساك به طويلاً فترة مفتوحة.
ليس من شك في أن جل مكاسب إيران الوقتية، وإنجازاتها المتحققة في هذه اللحظة العابرة، وهي إنجازاتٌ معنويةٌ بالدرجة الأولى، ناجمةٌ أساساً عن حالة التخبط والعشوائية السائدة لدى إدارة دونالد ترامب، ناهيك عن وضعية الارتجال ضاربة الأطناب في البيت الأبيض، تماماً على نحو ما تجلّى عليه الأمر في ملف صفقة القرن المؤجلة من زمن إلى زمن آخر، وفي ملف ورشة البحرين التجريبية البائسة، وحدّث ولا حرج عن التعاطي مع سائر الأزمات الممتدة من كوريا إلى فنزويلا، تلك التي اختلقها رجل يعتقد أن السياسة مجرد صفقاتٍ عقارية.
وأحسب أن التهديد بضربة صاروخية، وهي محدودةٌ على أي حال، وعديمة الأثر أغلب الظن (على غرار ضربة مطار الشعيرات السوري)، ومن ثمة التراجع عنها في آخر لحظة، لأسباب ملتبسةٍ، وذرائع غير مقنعة، لم يمنح آيات الله نصراً مجّانياً فقط، ولم تشجعهم ربما على تكرار التجربة وارتكاب مثيلاتٍ لها فحسب، وإنما بعثت رسائل غير مشفرة لحلفاء الولايات المتحدة، في الشرق الأوسط على وجه الخصوص، مفادها بأنه لا يمكن الثقة بوعود أميركا التي لا تحسب حساباً إلا لمصالحها.
وأكثر من ذلك، إن عدم الاستجابة للتحدّي الإيراني، وتمرير هذه الإهانة البالغة لأقوى قوةٍ عرفتها البشرية، من شأنه أن يمنح سياسة اللعب على حافّة الهاوية، المعتمدة لدى طهران، مصداقيةً كانت في أمسّ الحاجة لها، وأن يسقط مع سقوط الطائرة المسيّرة هيبة أميركا، وأن يكسر صورتها، وأن يهدّد بتقوّض قوة ردع الدولة العظمى الوحيدة، ومن ثمّة تأويل "تعقل" الرئيس المتهور على أنه ضعفٌ قيادي، يمكن الاستثمار فيه جيداً، ناهيك عن إغواء خصوم واشنطن وأعدائها بالتنمّر عليها، وربما فرك أنفها، إذا مرّت هذه السابقة غير المسبوقة.
في غياب كل من الاستراتيجية والدبلوماسية والسياسات الحصيفة، ومع سوء التقدير المزمن لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، خصوصاً في عهد ترامب، يغدو صحيحاً القول، من زاويةٍ معينة، إن إيران كسبت جولةً صغيرةً في معركةٍ قد تكون طويلة، كما يمكن القول، من زاوية مقابلة، إن هذا الكسب كان ظرفياً، لا يمكن البناء عليه، لم يكن فارقاً ولا مؤسّساً لمرحلة جديدة، سيما وأن إيران المنهكة بحصار خانق تواصل الانتقال على نحو حثيثٍ، من وضع مؤلم إلى وضع كارثي، وإن خياراتها مستحيلة، والوقت يعمل ضدها بلا هوادة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي