إيران "تخسر" حربها في العراق
بدأت العمليات العسكرية في محافظة صلاح الدين العراقية، والتي عرفت بعملية تكريت، بالتراجع من خلال عدة مؤشرات، أهمها تلكؤ التقدم الذي أعلنته القيادة المشتركة للعمليات على الأرض، وتبدل لغة الخطاب الإعلامي تجاه الدور الإيراني فيها، على الرغم من زيادة حجم الوجود العسكري الإيراني على الأرض فعلياً، وبكل صنوف القوات المسلحة التي أعلنت طهران، مراراً، أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، هو القائد الميداني والفعلي لها.
ونتيجة توقف زخم الهجوم على تكريت، وعودة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية إلى امتلاك زمام المبادرة من جديد، من خلال عمليات التعرض للقطعات المحتشدة، أو المتمركزة، حول تكريت، أو في الأقضية المحيطة بها، فقد تراجعت حكومة حيدر العبادي عن حالة الحماس الذي أرادت منه أن تظهر للعراقيين والعرب، وربما العالم، أن "معركة تكريت" هي بداية النهاية لتنظيم الدولة في العراق وفي المنطقة. ولذلك، اختارت مع الإدارة الإيرانية إبراز الدور الإيراني في هذا الفضل، ووظفت إعلاميين و"سياسيين كثيرين مشاركين في العملية السياسية "لكيل المديح والثناء لهذا الدور، مع التركيز على أن العراق يجب أن يكون مع يقف معه ضد "داعش"، وهي بالتحديد (إيران) التي وظفت بدورها هذا الخطاب لتعلن "بالونات اختبار" رسمية وحقيقية، عن بداية عصر إمبراطوري إيراني جديد عاصمته "بغداد"!
دخلت إيران علانية وبقوة، إذن، في معركة تكريت، ومع تحذير جميع المحللين والمراقبين، سواء في العراق أو على مستوى العالم، من مخاطر المشاركة الإيرانية الفعّالة في هذه المعركة، وما قد تعنيه من مظاهر انتقامية إيرانية (مباشرة)، أو من خلال مقاتلي "الحشد الشعبي" المؤتمرين أيضا بإمرة طهران، والمتعطشين، بشكل لافت، لعمليات قتل وتمثيل وتدمير أساسه طائفي، وهو ما دعا القوى الكبرى لبيان مخاوفها من هذه العملية، نتيجة ممارسات سابقة لقوى الحشد ضد العراقيين في محافظة ديالى وجرف الصخر وآمرلي وأجزاء من الأنبار، وفي العاصمة بغداد أيضاً. وقد كتب المحلل السياسي في صحيفة الغارديان البريطانية، سايمون تيسدال، ذلك بوضوح، عشية بدء العملية، وأشار إلى أن العملية العسكرية في تكريت ستفضي إلى حدوث مذابح، وسيُستخدم السكان دروعاً بشرية، كما سيدفع سكان صلاح الدين إلى هروب جماعي من مدنهم المستهدفة من القوات الإيرانية والحشد الشعبي. أما معهد "دراسة الحرب" في واشنطن فقد رأى أن هذه المعركة لا يمكن حسمها بالطريقة التي تروجها حكومة العبادي، أو القادة الإيرانيون، مذكرا بأن هذه المنطقة، والتي ترتبط بمحافظة الأنبار وديالى هي، بالضبط، ما كان يطلق عليه "المثلث السنّي"، والذي هزم القوات الأميركية طوال فترة وجودها قوات محتلة للعراق.
اليوم، وبعد مرور أيام كثيرة، على الوعود " المتفائلة" التي أطلقها العبادي من جهة، ثم القادة الإيرانيون وقيادة "الحشد الشعبي"، يظهر جلياً، عسكرياً وسياسياً، تراجع الموقف تماماً، سواء من ناحية مسك الأرض والتحكم بمقدرات المعارك وسيرها، أو من خلال تحقق رؤية المحليين الذي قالوا إن هذه المعركة هي معركة "انتقام طائفية" من سكان هذه المنطقة، ثم المناطق الأخرى تباعاً، حيث ارتكبت قوى الحشد الشعبي جرائم أكثر بشاعة من جريمة حرق تنظيم الدولة الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، جرائم لم تتناقلها الألسن، بل الفضائيات العالمية والعربية، بالصورة والصوت، ومن مصادر "الحشد" أنفسهم، قتل وتمثيل بشع بالسكاكين و"الدريلات" وتقطيع الأجساد أو سحلها وهي حية أو حرقها والتظاهر بالتدفئة على النيران المنبعثة منها .. إلخ.
عادت حكومة العبادي، إذن، وكمؤشر واضح على الحرج الإيراني والقوات المتجحفلة معه، وطالبت بإسناد جوي من طائرات التحالف الدولي، بعدما قالت، مراتٍ، إن هذه المعركة سيحسمها العراق وبمساعدة إيران. وفي بيان جديد للحكومة العراقية، كان أمر العجز على إنجاز المعركة في تكريت جلياً، وقال "إن الحكومة العراقية تثمن وتقدر جهود القوات العراقية المسلحة بكل أصنافها، ومقاتلي الحشد الشعبي وقوات البشمركة وأبناء العشائر في تصديهم لعصابات داعش الإرهابية وتحريرهم الأراضي العراقية، إلا أننا نؤكد التزام العراق بعلاقته مع التحالف الدولي ودوره في الوقوف مع العراق للتصدي لعصابات داعش الإرهابية".
وعلى الرغم من استخدام القوات الأسلحة الإيرانية بكثافة، ومنها صواريخ "فجر 5" و"فاتح 110"، ومختلف أنواع المدفعية وراجمات الصواريخ والدروع، بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، إلا أن مظاهر الهزيمة الإيرانية بدت تظهر بوضوح في هذه المعركة، وبدأت الأصوات تعلو في عموم أرجاء العراق والمنطقة، ثم العالم، من رفض وتنديد بالجرائم البشعة التي ترتكب بحق المدنيين وممتلكاتهم في مناطق العمليات، كما بدا واضحاً لعراقيين كثيرين، ظنوا أن هذه معركة "وطنية"، يجب أن يدعمها الجميع، بدا لهم، بعد حين من بدئها، أنها معركة لا تخاض "تحت راية العراق"، بل في ظل رايات صفراء تتحرك من تحتها جحافل لا تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية فعلاً، وإنما سكان هذه المناطق لأسباب طائفية، وأخرى ترتبط بالعقدة الإيرانية، ثم بالمشروع الإيراني المعتمد على التمدد المرهون بالتغيير الديمغرافي للمناطق التي يتمدد عليها.
تخسر إيران حربها في العراق. هذا ما يراه الجميع، وإن كان قادة العمليات الإيرانيون، مع قادة الحشد الشعبي، يضعون أسبابا لا يمكن أن تنطلي على أحد، كقول أحدهم إن "معركة استعادة تكريت صعبة، بسبب التحضيرات التي قام بها داعش، وأن مقاتلي داعش يقاتلون بشراسة"، أو قولهم "إن عناصر داعش قاموا بتفخيخ كل شيء في تكريت"، لكن الحقيقة التي باتت على لسان كل مراقب أن إيران التي أرسلت قوات ومستشارين وأسلحة، ونصبت شبكة صواريخ متقدمة داخل الأراضي العراقية، ووقعت اتفاقا لبيع العراق مشتريات عسكرية بقيمة عشرة مليارات دولار، لم تعد قادرة على إدارة "معارك" تكريت وما حولها، ما سيدفع مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، وربما القوى الأخرى الرافضة للعملية السياسية في العراق، إلى تبني زمام المبادأة، وفتح جبهات عديدة في العراق، وهو ما يوحي أن حربا مفتوحة لإيران في العراق، ستمتد من حدودها المشتركة مع العراق وحتى سورية، وهي من أهم مفاصل التاريخ التي على العراقيين والقيادات العربية في المنطقة إدراكها لإيقاف التمدد، وربما المشروع الإيراني برمته.