بعد أكثر من عام على شن أكبر عملية اعتقال بحق الأمراء ورجال الأعمال والوزراء في تاريخ السعودية، بما عرف بحملة "ريتز كارلتون"، نسبة إلى الفندق الذي حولته السلطات إلى سجن كبير، أعلن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، مساء الأربعاء الماضي، إنهاء أعمال اللجنة العليا لقضايا الفساد العام، التي يترأسها ابنه ولي العهد محمد بن سلمان. توقيت إنهاء أعمال اللجنة التي أنشئت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، لا يبدو منفصلاً عن تحقيق بن سلمان مجموعة الأهداف من وراء تأسيسها، والتي تجعل من مسألة "محاربة الفساد" الأقل أهمية بالنسبة إليه.
وبحسب بيان الديوان الملكي الرسمي، فإن "الملك اطّلع على التقرير الذي قال إن اللجنة أنهت أعمالها باستدعاء 381 متهماً (من الأمراء ورجال الأعمال) للتحقيق معهم، فيما اكتفت بأخذ شهادات البعض فقط، وإجراء تسوية مالية مع 87 متهماً، بعد إقرارهم بما نسب إليهم وقبولهم للتسوية وإحالة 56 شخصاً إلى النيابة العامة، بسبب رفض النائب العام التسوية معهم، لوجود قضايا جنائية بحقهم، فيما رفض 8 أشخاص التسوية مع السلطات وتمسكوا بأموالهم رغم ثبوت التهم عليهم، ليحالوا إلى النيابة العامة".
وأعلن التقرير أن "الدولة استعادت 400 مليار ريال سعودي (ما يقارب 106 مليارات دولار) من المتهمين، وتتمثل في عدة أصول عقارية وشركات وأوراق مالية ونقود وغيرها". ويثبت التقرير، وللمرة الأولى، المعلومات الصحافية، التي أكدت سيطرة ولي العهد على كبريات الشركات السعودية، ومنها مؤسسة بن لادن للمقاولات ومجموعة أم بي سي الإعلامية وشركات رجال الأعمال صالح كامل وعقاراته في مكة المكرمة والحجاز.
واللافت أن المبالغ المصادرة هي تقريباً نفس كلفة العقود، تحديداً في الشق العسكري، التي أبرمها بن سلمان مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال زيارته السعودية في مايو/ أيار 2017، أي قبل أشهر من إطلاق حملة الاعتقالات.
ويميل مراقبون ومحللون إلى اعتبار أن "عملية مصادرة الأموال في ريتز كارلتون، كان من بين أهدافها تمويل ولي العهد السعودي لصفقاته مع ترامب من خلال الأموال المصادرة من الأمراء ورجال الأعمال، خصوصاً أن بن سلمان لم يكن ليقدم على خطوة كهذه تجاه أبناء عمومته المرتبطين بالعديد من دوائر صناعة القرار الغربية من دون ضوء أخضر أميركي، تحديداً من جاريد كوشنر صهر ترامب".
وكانت الروايات الرسمية السعودية بشأن كيفية تصرف السلطات بالأموال المحصلة قد تضاربت. إذ أشار التقرير الأخير للجنة مكافحة الفساد إلى وضعها في الخزينة العامة، فيما صرح وزير المالية محمد الجدعان إلى أن هذه الأموال ستوجه إلى دعم برنامج "حساب المواطن"، وهو برنامج حكومي يقدم دعماً مالياً بسيطاً للأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط أنشأه ولي العهد، في محاولة منه لامتصاص الغضب الشعبي نتيجة سياساته التقشفية وغلاء الأسعار. لكن المبالغ المصروفة للمواطنين، لا تتناسب مع حجم ما أعلنت عنه السلطات من أموال مصادرة.
وإلى جانب المكاسب المالية التي جناها ولي العهد السعودي من وراء الحملة فإنه تمكن من كسر شوكة الأمراء الأقوياء من آل سعود، تحديداً أولئك الذين من الممكن أن يشكلوا تهديداً لطموحه بالوصول إلى العرش، عبر تجريدهم من قوتهم العسكرية والاقتصادية.
ووُصفت هذه العملية بأنها "ضربة استباقية للأجنحة القوية والثرية داخل الأسرة الحاكمة، وأبرزها جناح أبناء العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، إذ أقيل وزير الحرس الوطني السابق متعب بن عبد الله من وزارته، بسبب تهم فساد في الحرس الوطني، ليحيّد بن سلمان أكبر جهاز أمني غير موالٍ له آنذاك. كما لا يزال الأمير تركي بن عبد الله، أمير الرياض الأسبق، مجهول المكان، وسط أنباء تحدثت عن تعرضه لتعذيب شديد، خصوصاً بعد تأكد وفاة مدير مكتبه اللواء علي القحطاني تحت التعذيب في "ريتز كارلتون".
لكن بن سلمان أصرّ على أن الحملة لم تكن لتصفية أبناء عمومته، بل هي "قضية داخلية تسير منذ سنوات"، نافياً الشكوك التي أثيرت حول توقيتها، غير أن كل الدلائل تؤكد أن توقيت الحملة بعد عزل ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف وهوية الأمراء المستهدفين، كان يهدف إلى القضاء على أي معارضة داخل الأسرة الحاكمة قد تعترض طريق ولي العهد نحو الحكم وإدارة ملفات البلاد الخارجية والداخلية.
وازدادت الشكوك حول دوافع الحملة بعد تأكيد التقارير الصحافية زيارة كوشنر إلى الرياض، قبل حملة "ريتز كارلتون" بأيام، واجتماعه بولي العهد طويلاً، وإمكانية تسليمه قائمة بخصومه من الأمراء الذين يحاولون التحرك ضده في دوائر صناعة القرار الغربية، وعلى رأسهم الأمير تركي بن عبد الله، وسط دعوات من النواب الديمقراطيين في الكونغرس لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى التحقيق في مدى احتمالية تسريب كوشنر المعلومات لبن سلمان قبل سحب تصريحه الأمني في البيت الأبيض.
وبعد الإفراج عن غالبية المتهمين من الأمراء ورجال الأعمال والوزراء، عاد كثير من رجال الأعمال والوزراء إلى مناصبهم، لكن من دون أموالهم التي حصلت عليها الدولة السعودية. وعاد وزير المالية السابق وأحد أبرز المعتقلين إبراهيم العساف ليصبح وزيراً للخارجية، بدلاً من الوزير السابق عادل الجبير، فيما لم يعد رئيس المراسم الملكية محمد الطبيشي إلى الواجهة بسبب كبر سنه وإقالته قبل أزمة "ريتز كارلتون" لخلاف شخصي، لكن ابنه راكان عيّن نائباً لرئيس المراسم، رغم أن الدولة صادرت من والده ما يعادل 200 مليون دولار أميركي. كذلك عاد رئيس مجموعة "أم بي سي" وليد الإبراهيم، إلى عمله، بعد تنازله عن جزء كبير من القناة لصالح بن سلمان. لكن أياً من الأمراء المعتقلين الذين صودرت ثروتهم لم يعد إلى منصبه السابق، وباتوا يعيشون على الهامش، بسبب تخوّف السلطات منهم حتى الآن، ما يؤكد أن ولي العهد لا يثق بهم وأنه كان يخطط لإضعافهم سياسياً وعسكرياً في المقام الأول، وهو ما تم له فعلاً.