إنكار التنمية الاقتصادية الفلسطينية

16 أكتوبر 2017
+ الخط -
أطلق مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في منتصف الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول 2017) تقريره عن المساعدات المقدمة من منظمة الأونكتاد إلى الشعب الفلسطيني. وقد بينت نتائج هذا التقرير بوضوح كيف حالَ استمرار الاحتلال الإسرائيلي دون إحداث تنمية اقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأوضح، على وجه التحديد، الآثار السلبية للمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية على الاقتصاد الفلسطيني.
وتتصف تقارير "الأونكتاد" في العموم بمصداقيتها ومعلوماتها الموثوقة؛ ولكن أهمية هذا التقرير تكمن في أنه يتزامن والذكرى الخمسين لبدء الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967. وقد جاءت المسميات فيه بأسمائها، وعرض الحقيقة كما هي، بوصف الأوضاع الاقتصادية في فلسطين بعد خمسين عامًا من الاحتلال الإسرائيلي، إذ أشار التقرير الى الاحتلال العسكري للأرض الفلسطينية، وتسببه في خسائر اقتصادية كان لها تأثير مدمر على الاقتصاد الفلسطيني. وتوقف التقرير أيضاً عند الضرر الذي تحدثه المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية على الأرض الفلسطينية، وتأثير تلك المستوطنات على النمو الاقتصادي الفلسطيني، ووقوفها حائلا أمام فرص تطوير اقتصاد فلسطيني قابل للاستمرار، أو التنعم بأراضٍ متواصلة جغرافيًا، تحت سيادة الفلسطينيين لإدارتها. فالجدار والحواجز والإغلاقات المستمرة، خصوصاً في مستوطنات القدس، تحدث ضرراً جوهريا بالنمو في الاقتصاد الفلسطيني.

يزداد تعثر الاقتصاد الفلسطيني هذا سوءًا مع مرور الوقت، ومع استمرار توسيع المستوطنات والمستعمرات الإسرائيلية، فعلى الرغم من كل المساعدات الدولية المتدفقة التي تجاوزت 30 مليار دولار على مدار العقدين الماضيين، لم يطرأ تحسن على أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية. كذلك هو الأمر بالنسبة للمؤشرات الاقتصادية الرئيسية، فما يزال نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الوقت الحاضر، كما كان عليه في منتصف التسعينيات. ويجعل هذا الأمر الاقتصاد الفلسطيني عاجزا وغير قابل للاستمرار، ولا يجعل الشعب الفلسطيني في حال أفضل.
ولتقرير "الأونكتاد" أهمية أخرى، تبرز في أنه، وبالمقارنة مع تقارير أخرى، تصدر عن مؤسسات دولية، كالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، يحاجج لمقاربة متمايزة غير ملتصقة بالنموذج النيوليبرالي، ويعنون التركيبة السياسية لمشكلات التنمية في المنظومة الاقتصادية الفلسطينية. فتقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا تحيد عن خطها النيوليبرالي، بل تمعن في التركيز على مركزية القطاع الخاص، باعتباره أحد العناصر الأساسية التي ستقود إلى تنمية الاقتصاد، وهذه التقارير تخجل من ذكر الأشياء بأسمائها، كالاحتلال الكولونيالي الاستعماري مثلاً، وتتستر خلف مسميات أخرى، من قبيل العراقيل والظروف السياسية والمحدّدات. أمّا تقرير "الأونكتاد" الجديد (وتقارير سبقته للأونكتاد) فيُعيد السياسة إلى المعادلة الاقتصادية، وهذا هو المهم حقّاً، عندما نتحدث عن الاستدامة الاقتصادية.
تعود عملية نكران التنمية في فلسطين وإنكارها إلى غياب الركائز الأساسية لعملية التنمية الحقيقية، أي غياب القدرة التحولية في الاقتصاد الفلسطيني، والاستمرار في التنصل من معالجة القضايا السياسية المسببة لحالة اللاتنمية، وأن الاقتصاد الفلسطيني يعتمد، بشكل كبير جداً، على المساعدات الدولية، فإن أي تراجع أو تخفيض في الدعم من الجهات المانحة يؤثر بشكل كبير في نمو الناتج المحلي الذي يستفيد من تدفق الأموال المرصودة للاقتصاد والسوق الفلسطينيين. وقد شكلت هذه المساعدات، منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، عنصراً مهمًا في المحافظة على تشغيل العجلة الاقتصادية، وإن لم تتمكن من إحداث تنمية اقتصادية تشغيلية إنتاجية حقيقية. ولكن الأعوام القليلة الماضية شهدت تناقصًا حادا في المساعدات، الأمر الذي وضع السلطة الفلسطينية، خصوصا، في أزمة مالية شديدة، بحيث تأثر الاقتصاد الفلسطيني بغياب هذا المورد.
أما الإسرائيليون، فيترقبون تقارير "الأونكتاد"، ويتصدون لها، لإظهار أن الأمم المتحدة لا تقف في صف إسرائيل، ولا تدعمها أو على الأقل لا تتبنى موقفًا محايدًا وفقًا للرواية الإسرائيلية. وهذا ما تعوّد عليه الفلسطينيون. كلما صدر تقرير لوكالة أو مؤسسة دولية يتحدّى الخطاب المهيمن لها، تهرع إسرائيل إلى التشكيك بمصداقيته وحياده، وتعمل مع مناصريها وحلفائها النافذين داخل منظومة الأمم المتحدة الى إسكاته أو تهميشه أو إعادة صياغته أو محوه أو حذف أجزاء منه أو ما إلى ذلك.
ومع أن المثبط الأساسي للاقتصاد الفلسطيني هو الاحتلال الإسرائيلي بالدرجة الأولى، والتوصيات السياساتية لمجتمع المانحين الدوليين واشتراطاتهم بالدرجة الثانية؛ إلا أنه تجدر الإشارة في هذا الشأن إلى أن السلطة الفلسطينية تتحمل أيضاً جزءا من المشكلة الاقتصادية، لأنها ساهمت مساهمةً مباشرةً وغيرَ مباشرةٍ في عملية إنكار التنمية. فمن بداية تأسيسها، لم تعارض الشروط والنموذج والفكر النيوليبرالي الذي فرضه عليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجتمع المانحين الرئيسي، وإنما قبلته وتبنته واحتفت به. فهي لم تَرعَ القدرات الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، ولم تعارض أيضاً السياسات الاقتصادية المدمرة التي وضعتها إسرائيل أو المؤسسات الدولية الكبرى، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بل تعاملت معها باعتبارها أمراً واقعاً، من دون مَشكلتها أو تحديها.

وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية ليست الطرف والفاعل الأقوى في المعادلة، إلا أنها لو كانت فعلاً تمثل الشعب الفلسطيني وتطلعاته بحق، لَتصدت لتلك السياسات، ولَطرحت برنامجًا اقتصاديًا واضحًا يضع الحقوق الفلسطينية أولًا، بدلًا من مصالح الجهات الفاعلة الأخرى، بما فيها إسرائيل. ولكن ما يتضح من قراءة هذه التقارير الأممية وتحليلها أن السلطة الفلسطينية فشلت في قيادة شعبها في تحقيق الرفاه الاقتصادي له، بل ودأبت على الفشل منذ فترة طويلة، لأن النموذج الاقتصادي الذي تتبناه لم يشهد أي تغيير، وإنما ظل يرسِّخ النظام القديم الذي لا يفتأ يستنسخ نفسه، وينتج المشكلات نفسها، وبالتالي فإن السلطة ستظل عاجزة عن الخروج من هذه الحلقة المفرغة والظروف الاقتصادية المتفاقمة سوءًا مع مرور الوقت، ما لم تطرح نموذجا اقتصاديا بديلا، يدعم الحق الفلسطيني، ولا يكتسب منه الاحتلال.
يبرز تقرير منظمة الأونكتاد الحُجة من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لكي يتسنى قيام اقتصاد قابل للنمو وقادرٍ على النهوض بالفلسطينيين، من أجل ممارسة حقهم في التنمية، مثل سائر شعوب العالم. متى ستصبح التقارير هذه أبعد من مجرد تقرير يوضع على الرف وفي السجلات، بعد المداولات في جلسات الأمم المتحدة؟ ومتى ستصبح عناصر المحاسبة والمساءلة في جوهر هذه التقارير؟ ومتى ستغتنم القيادات السياسية الفلسطينية هذه التقارير في المحافل الدولية بشكل فعّال؟ أسئلة برسم الإجابة والفعل.
F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.