إمبريالية الترجمة

04 يناير 2020
الهادي الجزار/ مصر
+ الخط -

سعتْ آداب العالَم، منذ ظهورها، إلى الدفاع عن فكرة التعايش بين الثقافات والمعارف، وإلى ضرورة الحوار في ما بينها، بل إنها ما فتئتْ تكشف عن إفادة بعضها من بعض، ويكفي أن نتذكَّر ما أفادَه العرب من ثقافات الأمم الأخرى، وأيضاً ذلك الحوار المُبهر بين أبي العلاء المعري وأليغيري دانتي مجسَّداً في "رسالة الغفران" و"الكوميديا الإلهية"، أو بين السيّاب وإليوت، أو بين عبد الفتاح كيليطو وبورخيس، إلى غيرها من الأمثلة.

ولم يتوقَّف أمر الحوار والإفادة على الآداب وحدها، بل نجده يطاول الفضاء اللغوي Logosphère، الذي يحتجن بكلمات وعبارات وصور غريبة استُقدِمت من أفضية لغوية مختلفة، وهُضِمت لتُغذّي الثقافة المُضيفة، وذلك بفضل الدور التلقيحي الدائب الذي تنهض به الترجمة.

وما كان لهذا الحوار أنْ يكون لولا وساطة الترجمة، التي نهض بها في الماضي أفرادٌ كثيرون ومؤسّساتٌ مثل "بيت الحكمة" و"مدرسة طليطلة" وغيرهما؛ بما أغنت به المكتبات، ولاقَحتِ الثقافات في العصر الحديث بالخصوص، الذي استُغِلتّ فيه المطبعة التي اخترعها غوتنبرغ، والتي شجّعتْ على انتشار الكتاب المَحَليّ لغَةً والمترجَم معاً.

ومعلوم أنَّ المذهبَ الرومانسيّ، مع رائده الألماني غُوتِه، الذي دافع عن فكرة بناء تاريخ للأدب العالمي، مِن خلال صياغة تاريخ للآداب المحلية لمختلف بلدان العالَم ودُولِه، قد ساهم بقوة في الترويج للكتاب عموماً وضِمنَه الكتاب المترجَم، الممثِّل للغريب الوافد والمختلِف.

لكنّ الغريب هو أنَّ الترجمةَ في أوج مثاليتها الحالمة، ممثَّلةً في صورتها الرومانسية هذه، انحرفتْ عن أصلها، بصِفتِها جسراً يصل بين الثقافات، واندغمتْ في مشاريع توسُّعيّة، لتنخرطَ في المشروع الإمبريالي، الذي استعبد شعوب الأمم الأخرى، واستعمر بلادَها، واستنزف خيراتها. ويكفي أن نستحضر على سبيل المثال حملة الإمبراطور بونابرت على مصر، التي أشْركَ فيها إلى جانب عساكره عُلماءَ في مختلف التخصّصات، التي من بينها اللغات والثقافات الشرقية، والذين يسَّروا له السيطرة على مصرَ، وفتحوا شهيّةَ فرنسا للتوسّع في أوروبا والتغلغلِ في بلدان أفريقيا وغيرها.

ومِمّا لا يُمكن إنكارُه اليومَ هو قيامُ كثير من الرَّحالة إلى العالَم العربي بدور المترجِمين، بل بأدوار مُريبة، ذلك أن الرحالة، في حقيقة الأمر، كانوا مترجِمين ثقافيّين دوْماً، يَقرأون المُجتمَع المُزارَ ويُقدّمون معلومات لأبناء بلدهم، بل لسُلُطاته، عن جغرافية ذلك الغريب وثقافته وذهنيته ومعتقداته وغيرها، أي أنهم كانوا وسيلة إعلامية واستخباراتية، ساهمتْ بقسط وفير في تمهيد السبيل للاستعمار، ولذلك لم يكنْ غريباً أنْ يُدرِج بعض أولئك المترجِمين مُعجَماً وظيفياً للكلمات والعبارات المفاتيح، التي يَسهُل بها على الوافد على البلد من الغربيّين أنْ يتواصل به مع أَهاليه، ولعلّ أشهر هؤلاء الرَّحالة عليّ باي العباسي "دومِنْغُو فْرانثيسكو بادِيّا"، الذي جاب المغرب والمشرق، والذي مَوَّلت المملكة الإسبانية رحلتَه إلى المغرب، مثلما موَّلتْ فرنسا رحلته إلى الشرق العربي.

وبعيداً عن الترجمة والسياسة الاستعمارية التوسُّعية، يروج في الأوساط الأدبية النقدية أنّ الرواية جنس أدبي إمبريالي، أي أنها توسُّعية، وَفق تعريف الناقدة مارْطْ رُوبِير، نظرا لإيوائها كلَّ أشكال الكتابة وأجناسها.

ويبدو أنَّ مثل هذا الحكم يستدعي أنْ يُراجَع؛ فالرِّحلةُ أحقُّ بهذا الوصف من الرواية، التي أراها قد تفرَّعتْ عن الرحلة، بدليل أن رواية ثربانتيس "دونْ كيخوطي" هي في أساسها رحلة مثلما "كلكامش" أو "الإلياذة" أو "رسالة الغفران" أو سواها.

ولربّما كانت الترجمةُ، وهي جنس أدبي على حدة، مثلما ألحّ على ذلك الفيلسوف الإسباني أُرْتِيغا إِغاسِيتْ، هي الجنس الأدبي الإمبريالي بامتياز، لكونها تغزو كل المجالات المعرفية من تاريخ وفلسفة وجغرافية وعلم نفس ورحلة وفنون في مختلف تحقُّقاتها وأجناسها، وتُخضعها لسلطتها اللغوية والتأويلية، وتروِّج لها بالصورة التي يُصرِّفُها بها المترجِم والجهةُ المتعاقِدة معه، فتصير الترجمَةُ بصفتِها مُنتَجاً غازيةً لمجتمع القُرّاء أيضاً، ومتحكِّمةً في تشكيل أخلاقهم وأذواقهم ورؤيَتهم للعالم.

دلالات
المساهمون