إما إيران أو إسرائيل؟

03 مارس 2016
+ الخط -
كيف أصبح سؤال "إما إيران أو إسرائيل؟" دارجاً في سياق النقاش السياسيّ العربي، وماذا يعني ذلك؟
يأخذ السؤال صيغاً عديدة. استفتاء العرب على "تويتر" بدون مناسبة عمّن سيؤيّدون "إذا ضربت إسرائيل حزب الله؟"، أو مماحكة في نقاشٍ حول من هو "العدو الأول للعرب: إيران أم إسرائيل؟"، أو كاريكاتور أو مقالة لكاتبٍ تقارن بين مجازر الأسد المحميّ إيرانياً ومجازر إسرائيل، أو اقتراحٍ من محلل سياسي، يقول إن مواجهة إيران تقتضي التحالف مع إسرائيل. جميع هذه المقاربات، بلا استثناء، تتسمّ بخفّةٍ لا تُحتمل عند الخوض في موضوعاتٍ كهذه، وتبدأ الخفّة بالذات من اللحظة التي يسلّم فيها الذهن بهذا السؤال على علاّته، ويستسلم لخياراته كإكراهاتٍ، لا مفرّ منها. الحقيقة أن هذا السؤال نموذجٌ ممتاز لعمليات التضليل التي لا تكمن في الأجوبة، بل في السؤال نفسه.
هذا السؤال الذي يُطرح، اليوم، في سياق النقاش العربي حول المواجهة مع إيران، هو أصلاً من أسئلة ما كان معروفاً قبل الربيع العربي بـ"محور الممانعة" وافتراضاته. كان هذا الاقتران مطروحاً على الدوام في خطاب حزب الله، وفي خطاب كتابٍ إسلاميين عربٍ طالما راهنوا على الثورة الإسلامية في إيران كقوة تحررية، واستمروا كذلك حتى بعد احتلال العراق وتخريبه، ما ينمّ عن قصر نظر. بعد الثورة السورية، استمرّ هذا السؤال مطروحاً في البروباغاندا الإيرانية، كما على ألسنة من يرغبون في الدفاع عن تدخل إيران وحزب الله في سورية، لكنهم يعجزون عن إيجاد أيّ منطقٍ متماسكٍ عربياً فيلجأون، كما لجأوا دائماً، إلى اللوذ بسؤال "إيران أم إسرائيل؟". إيران فهمت، منذ وقتٍ مبكّر وبشكلٍ جيّد، أن "القضية الفلسطينية" خزّان هائل للشرعية في العالم العربي، لأن فلسطين "مرجعية سياسية" للمواطنين العرب. واستغلت هذا خصوصاً بعد اتفاقية أوسلو التي قيّدت السياسات العربية تجاه فلسطين.
الآن، عندما تجادل البروباغندا الإيرانية وحزب الله بطريقة "إيران أو إسرائيل؟" فإنها لا تطرح سؤالاً حقيقياً، بقدر ما تواصل استحلاب مخزون الشرعية الكامن في القضية الفلسطينية، عندما تعجز عن إيجاد أيّ غطاء شرعيّ آخر لما تفعله في سورية والعراق. هذا أولاً. وثانياً، هي لا تطرح سؤالاً حقيقياً بخياراتٍ حقيقيةٍ، لأنه لا توجد أيّ حتمية سياسية، تفرض على وعي المواطن العربي الانحياز لأحد هذين الخيارين بلا ثالث، فالسؤال مصطنع، وخياراته المانوية على شاكلة "إما.. أو" مصطنعة، بل إن جهد إيران وحزب الله في سورية توجّه خصوصاً إلى قمع الشعب الذي حاول أن يختار الخيار الثالث: أن يكون ضد الأسد وضد إسرائيل في الوقت نفسه (هل يجرؤ أحدٌ على افتراض أن الثورة السورية اندلعت، لأنها كانت تطمح لإسقاط الأسد وصداقة إسرائيل؟ أو أنها كانت ستقبل بذلك، لو نجحت الثورة؟). وأخيراً، لا توجد قاعدة معقولة تؤهّل إيران وحزب الله لامتحان المواطنين العرب بسؤال "إيران أو إسرائيل؟"، بينما كل جهدهما، في الأعوام الخمسة الأخيرة، مكرّس بالكامل لموضوع آخر، أصبح يحتلّ الأولوية قبل إسرائيل، ومن أجل حماية نظامٍ، هو نموذجٌ للجمع والتوفيق والانسجام بين التهدئة مع إسرائيل والتبعيّة لإيران. في طرح هذا السؤال على وعي المواطن العربي قدرٌ جمّ من الوقاحة والاستعلاء عليه. وفي استسلام الوعي له، والاحتباس في خياراته، خضوعٌ بلا مبرر.
خلال العقد الماضي، وخصوصاً بعد الاتفاق النووي بين أميركا وإيران، تسرّب هذا السؤال من البروباغاندا الممانعة إلى بعض الأصوات الخليجية المضادة التي أصبحت تطرح السؤال بدورها، وإن على استحياء، لا لأنهُ سؤالٌ حقيقي بخياراتٍ حقيقية. ولكن، لأنه يخدم سياقاتٍ صراعية معيّنة. يطرح بعض الطائفيين السُنّة السؤال، لا لأنه متحمس لصداقة إسرائيل على الإطلاق. ولكن، لأن هذا السؤال يرفع الصراع الطائفي الذي يتصدّرونه إلى سويّة "المرجعية السياسية" الدائمة التي تُبنى عليها السياسات، وتنطلق منها التصورات ابتداءً، بما يقتضيه هذا من محو حُقبٍ عربيةٍ سابقةٍ، تميزت بارتخاء التوتر السياسي واندماج الطوائف والتقارب الثقافي مع إيران. لا يمكن أن يسمى التجاوب مع السؤال المطروح، في هذا السياق، "وعياً سياسياً"، بل استسلاماً سهلاً وبلا مقاومة، لتأبيد الصراع الطائفي عربياً.
على الجانب الآخر، يطرح السؤال نفسه كُتّاب علمانيون لا يحملون انحيازاً طائفياً حقيقياً. لكن،
يبدو أنهم مهتمّون بفكرة تقويض القضية الفلسطينية، باعتبارها مرجعية سياسية عربياً، لأنها تخدم سياقاتهم الخطابية المتخصصة في نقد (وتقويض) الأيديولوجيات الحركية الإسلامية والقومية التي تمثل القضية الفلسطينية رافعة سياسية أساسية في خطابها. وفقدانها يعني تداعي جزء كبير من ذاك الخطاب. والمشكلة في الاستسلام لسؤال "إيران أو إسرائيل؟"، عندما يحضر في هذا السياق، أنهُ سياقٌ غير معنيّ لا بالصراع مع إيران أو إسرائيل، ولا بالوصول إلى تسوياتٍ عادلةٍ مع أيهما، قدر عنايته بتصفية صراعاتٍ محلية محدودة، أي أنه سياق يتعامل برعونة مع المشكلات الإقليمية الكبرى، على أمل أن يساعد ذلك في تصفية فصيلٍ محلّي، وطرح ذاك السؤال، في هذا السياق، لا يمكنهُ أن ينبني على معطياتٍ إقليمية جادّة.
على المستوى الفعلي، غير الخطابي ولا التّمثّلي، يتحدث الخليج عن أشياء من قبيل حديث وجيهٍ ثريّ مع صحيفة أجنبية، حول ما يدعوه "ترحيب الخليجيين بضربة إسرائيلية لإيران"، أو تبجّح من يصف نفسه بـ"المفكر الاستراتيجي" بلقاء شخصيات إسرائيلية (وهو أمرٌ يصعب حدوثه تكراراً من دون غطاء سياسيّ ما)، أو انتشار حديث غامض عن وجود بعثةٍ إسرائيليةٍ سرّيةٍ في مكانٍ ما من الخليج. أكثر من يحتفي ويُضخّم قصصاً كهذه هي البروباغاندا الإسرائيلية والإيرانية، كل منهما من زاويتها المختلفة، وأكثر من يتعرّض للوصم بسببها هم المواطنون الخليجيون الذين، وهنا المفارقة، هم أكثر من تثير هذه المقاربات الغامضة توجّسه وانزعاجه ونقده، وهم من أكثر المجتمعات العربية بعداً، في خبراتهم ووعيهم عن تجربة التطبيع (مرت بها مجتمعات عربية أخرى على مستوى الحكومات، من دون أن ينجح هذا في التأثير على الموقف الشعبي تجاه إسرائيل، ولن تنجح أي عملية تطبيع قط عربياً بلا اتفاقيات عادلة)، وهم من أكثر المجتمعات العربية اهتماماً بدعم فلسطين في الأزمات خصوصاً (دعموا الأفغان والشيشان والبوسنة والهرسك وقضايا مختلفة، وأحياناً غير مُحقّة، في أقصى الأرض، عند وجود الآصرة الدينية!). وأخيراً، هذه المجتمعات الخليجية هي التي، على الرغم من أنها لا تنتخب حكوماتها، إلا أن هذه الحكومات لا تقوم بأيّ اتصال علنيّ ورسمي بإسرائيل، لأنها تعرف جيداً حجم الرفض الشعبي لمثل هذه التوجهات.
من المهم، للغاية، أن يرفض أي عربي، وخليجي خصوصاً، في هذه اللحظات، أن يُطرح عليه هذا السؤال "إيران أو إسرائيل؟". من المهم أن يحافظ على وعيه بكلّ مشكلةٍ، ومستوياتها وأبعادها، منفصلة على حدة عن الأخرى، ألا يترك لأصحاب المصالح المتصارعين على بؤس واقعه أن يحدّدوا له الأسئلة والخيارات والجواب الصحيح - الوحيد.
@Emanmag

avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع