إلياس صالح: اللاذقية زمن العثمانيين

26 يناير 2020
إلياس صالح في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

تستحقّ سيرة إلياس صالح (1839 - 1885)، الذي تمرّ اليوم الأحد ذكرى مرور مئة وإحدى وثمانين سنةً على مولده، الالتفات إليها قبل تناول ما تركه من مؤلّفات معدودة. فهو ابن عائلة غزّية مسيحية اهتمّت بالتعليم باكراً، باعتباره الطريق الآمن للالتحاق بسلك الوظيفة الحكومية، لكن جدّه سمعان الذي شغل موقع رئيس الكتاب في يافا قد قُتل فيها وصودرت أمواله وضُبطت موجوداته، لينتقل ابنه موسى على إثرها إلى اللاذقية.

بعد أن واجه اليتم باكراً، يضطر الحفيد إلياس إلى تعلُّم صنعة تمكّنه من الإنفاق على أسرته، فأصبح خطّاطاً معروفاً، وأتقن القراءة بالعربية والإيطالية والفرنسية، قبل أن يلتحق بـ"مدرسة العلوم" التي أنشأها الإنجيليون الأميركيون في المدينة الساحلية السورية، ويتخرّج بشهادة ومعرفة بالإنكليزية أمّنتا له العمل مترجماً في القنصلية الأميركية فيها عام 1866.

بعد ثلاث سنوات، سيبدأ بنظم "المزامير" (من أسفار العهد القديم) لصالح "المرسلين الأميركان"، التي سيُنهيها عام 1875، وحينها استقال من القنصلية ليباشر عمله في "المحكمة الابتدائية"، حيث تعلّم التركية وترجم عنها الدستور العثماني وقوانين السلطنة العلية، ومنذ ذلك التاريخ واظب على كتابة مذكّراته اليومية حتى رحيله.

يمكن القول إن صالح كان أحد نماذج كبار المتعلّمين في تلك الفترة، الرجل الذي يعرف عدّة لغات ويبرع في الترجمة منها وإليها، كذلك فإنه نشر قصائده في الصحف سيجمعها في "مراثي وديوان" حمل اسمه وتقديم الشاعر اللبناني أسعد داغر، الذي يشير أيضاً إلى كرّاس صغير تحت عنوان "خطبة في حقيقة التهذيب" أصدرها الراحل عن "المطبعة العمومية" في بيروت عام 1866.

يقسّم الشاعر ديوانه إلى سبعة أبواب، هي: الغزل والنسيب، مراسلات مختلفة، والمدائح والتهاني، والمراثي والتعازي، وأغراض شتى، ومدائح العذراء، والتواريخ، ويدوّن في إحدى قصائده: "حور العين سطت فأين المهربُ/ من فتكها وهي المنى والمطلبُ/ تدمي القلوب فيستطاب جراحها/ وتتيح للصب العذاب فيعذبُ/ نُجلٌ صحاح لا تزال بغزوها/ أبداً على معتلّها تتغلّبُ".

لكن الأثر البارز والوحيد الذي يضعه في مصافّ الكاتب والباحث المحترف، يتمثّل بكتابه "آثار الحقب في لاذقية العرب"، الذي أمضى في تأليفه قرابة ثمانية أعوام، أسفرت عن مخطوط من ثلاثة مجلّدات، بقي محجوباً إلّا عن القلّة قبل أن يقوم بتحقيقه وتقديمه إلياس جريج، ويصدر عن "دار الفارابي" عام 2013.

رغم أن صالح يعود إلى تاريخ مدينته منذ ما قبل التاريخ، إلّا أنه خصّص جلّ مؤلّفه للمرحلة العثمانية، كما أنه حدّد سلفاً حدودها الجغرافية ضمن مساحة تُقدّر بألف وسبعمئة وخمسين ميلاً من طرطوس جنوباً حتى جبل الأقرع شمالاً، وهو بذلك يلتزم المنهج العلمي من خلال التأريخ لمكان معيّن ضمن مدّة زمنية محدّدة، كما تشير المقدّمة.

يوضّح جريج مسائل عديدة تمنح الكتاب قيمة مضافة تتعلّق بالفترة الزمنية التي كُتب خلالها، متمثّلةً بعهد التنظيمات (الإصلاحات التي تبنّتها الدولة العثمانية في سبعينيات القرن التاسع عشر) وتحوُّلها من نظام الإيالات إلى نظام الولاية، الذي شارك في تنفيذه بحكْم موقعه الوظيفي في المحكمة، وتنافس عدد من البدان الغربية على النفوذ في المنطقة، ومنها اللاذقية التي يورد الكتاب وجود قناصل فيها لعدد من البلدان؛ منها إنكلترا وفرنسا وألمانيا وأميركا والنمسا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا والدنمارك واليونان وإيران وروسيا، والأخيرة كانت تسعى إلى تعظيم نفوذها في بلاد الشام خلال الحرب التي دارت بينها وبين الأستانة.

يقدّم صالح مسحاً دقيقاً عن التركيبة السكانية والطائفية لمدينته التي عاش فيها المسلمون السنّة والنصيريون والإسماعيليون، والمسيحيون الأرثوذكس والموارنة والبروتستانت، مفصّلاً الأوضاع الاجتماعية والطبقات وأحوال المرأة في كلّ طائفة وطقوسها الدينية وعلاقتها مع السلطة، وتأخّر الزراعة في المنطقة واعتمادها على الطرق التقليدية، وكيف حاول البعض حينها تغييرها عبر الاستعانة بمزارعين ألمان من ذوي الخبرة.

لا يفوت المؤلّف التعقيب على الحوادث والأمور، فكما وصف الواقع الزراعي بالتأخّر، لم يرَ أن الصناعة الحرفية التي امتهنها اللاذقيون، مثل الحياكة والحدادة والنجارة والبناء وعمل الفخار والصابون وعصر الزيتون والسمسم وحلج القطن، قد بلغت جميعها حدّ الاتقان، واستعرض أيضاً التجارة وما تستورده اللاذقية وما تصدّره عبر مرفئها.

يُعدّ الكتاب مرجعاً مهمّاً في فهم الواقع الاجتماعي والاقتصادي للاذقية خلال الحكم العثماني، وفيه يقع القارئ على معلومات غنية وأرقام كثيرة تحيل على اجتهاد إلياس صالح في الرجوع إلى الكتب التاريخية التي تناولت المدينة، وكذلك جمعه للعديد من الروايات الشفهية لعدد من أبنائها، واطلاعه على التركية، ما ساهم في تضمينه نقاطاً عديدة تتعلّق بالنظام الإداري والتغيّرات القانونية في تلك الحقبة.

المساهمون