إلى صديقي المثقف

04 مايو 2019
+ الخط -
لم يبق لدينا جسر نعبر من خلاله إلى الوطن إلا بري البذرة الثقافية التي زرعتها في نفوسنا، فلم يَعد لدينا ما نبكي عليه سوى الوطن السليب الذي يُقطع الأوصال يوماً بعد الآخر. لذا أما زلت تكتب الروايات والمقالات، وتشتاق لتلك الزنانة التي تعودت أن تأكل برفقتها؟ أما زلت تذكر يافا عروس البحر؟ أما زلت تذكر زُقاق ذلك المخيم المجيد في صوره وشعاراته ومخطوطاته على جدران أنهكها الفقر والحرمان؟ ألا تذكر "الترنس"؟ هو يشتاق لك، وسوق اليرموك، وجلسة الجندي المجهول، أتشتاق لفنجان قهوتك الصباحي على مفترق الشارع، إلى جلسة المثقفين والكُتاب والأدباء، لقد سُلبت الثقافة من شوارع مدينة الظلام.
يا صديقي: إن كُنت تسمعني فأنا أطرق جدران خزان الذاكرة، لعلها تُعيد إلينا صوتك الشاحب، وكحتك المعهودة. لقد اشتاقت لك الديار، أتحسب أنك تعيش في غمرة الصمت وسط مدينة الأغراب، وسط عنصرية التفكير الحديث المبنى على المجهول وبحضور الغائبين. نحن هنا ما زلنا نتنفس الهواء الرطب، نحن ملح الأرض الذي لا يذوب، نحن الصخر الذي لا يلين، لن تهزمنا قطرات المطر الصيفية، نحن في عصر كي الذاكرة، فماذا أنت فاعل الآن؟
أيها المثقف: ما زالت حدائق الفراولة الحمراء تُزين الأرض، وتمتد من الشمال حتى الجنوب، قِلاع المثقفين تندثر وتتلوث بالخطاب السياسي الممزوج بماء الكذب، ونعيش الخطاب التنويري الذي يُدمر الوطن، ويُمجد الحزب، لقد اختلفت علينا البلاد، وأصبحنا غُرباء، غابت المشاهد الثقافية، ورائحة القهوة، وأصبحت السجائر بلا طعم، بعدما غزت السجائر الإلكترونية البلاد. تغيرت العادات والتقاليد وأصبحت الكرامة موقفا، والصداقة مصلحة، والوطن دجاجة تبيض ذهباً، وباع مُثقفو الوطن رؤوس أقلامهم لساسة البلاد، وبات المشهد الكلاسيكي تراجيديا، وغابت شمس الحق وبزغ فجر الباطل، ونامت المدينة بسكانها على ضوضاء مُطلقي الشعارات ومروجي الأكاذيب.
خذلتني العبارات واللغة العربية في تركيب مفردات جديدة، فاستعنت بصديق مثقف لإتمام كتابة هذا المقال، وعندما قرأ العنوان، أجاب: خذلتنا الأيام وأصبحنا عبيداً لأفكار التطرف السياسي، والتنوع الاستبدادي بين شقي الوطن، إن الثقافة التي تبحث عنها لا تُطعم خبزاً ولا تسد رمق جائع.
صديقي: أما زلت مثقفاً؟ أتريد أن أذكرك بما يقول محمود درويش: "أنا من هناك ولي ذكريات"، احفظ جميل ذكرياتك بين مثقفيك وقُرائك ومتابعيك وأحبابك، عُد إلى هنا حيث الشوارع تشتاق لك، وكذلك أبوشفيق الذي تنكز عربته وسط شوارع المدينة، تظفر بابتسامة جميلة من صبية يافعة يوماً ما قرأت لك رواية الفتيان، أو "الحجة كرستينا".
ما زالت الحياة مُعلقة يا صديقي في غزة، "ثمة أشياء تستطيع دائماً أن تسحبنا بعيداً في الماضي وترحل بنا، من دون أن ندرك أنها بهذا تؤكد لنا أنها لم تعد إلا من الماضي". ويبدو أن التعليق قد زاد من حده هذه المرة، عندما توجه أحد الكتاب لبيع القهوة على الطرقات، من أجل تأمين لقمة عيش لأبنائه، فقد وجد الثقافة لا تطعم الخبز، وأشعل النار في الكتب والروايات، كي تُغلى القهوة لتصبح بنكهة ثقافية بحتة، يتذوق المارة طعم المرار في تلك القهوة، التي سُكبت في نهر الثقافة الفلسطينية الحديثة، ثقافة الانقسام، وثقافة الاحتلال، وثقافة الحصار، وثقافة المؤامرة، وثقافة التخاذل، وثقافة السياسة، وثقافة في بلاد لا تحترم أدنى ثقافة، إلا ثقافة القتل والبارود.
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)