لاحظ المتابعون غزارة عمليات التكسير والنهب وحرق المباني وتشويهها التي صاحبت الاحتجاجات الغاضبة والصاخبة في مئات المدن في الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة بعد قتل المواطن الأسود جورج فلويد على أيدي أربعة رجال شرطة بيض في مينيابوليس. وقد عزاها المعلِّقون المحافظون إلى ضعف الإحساس بالانتماء المدني والانضباط لدى المتظاهرين، وبشكل خاص ذوي الأصل الأفريقي، كمقدمة لإدانتهم بالخروج عن القانون والدعوة لردعهم ومعاقبتهم بغض النظر عن عدالة قضيتهم وطول إجحافهم.
أما المراقبون المتعاطفون، خاصة البيض منهم، فهم قد حاولوا إما التقليل من أهمية التكسير والنهب أو نسبتهما لفقر غالبية المحتجّين وسخطهم على الأثرياء الذين يتمتعون بهذه المباني وما تحتويه من غال ونفيس بدون أن ينسبوا للمحتجين أي إحساس بالغبن الطبقي. ولم يلتفت أي من الطرفين إلى دور العمارة نفسها في استثارة مشاعر الكراهية والرغبة في التدمير التي شهدناها لدى المتظاهرين، الذين خرجوا بالأساس للاحتجاج على حرمانهم من الكثير من حقوقهم الأساسية والتي جسدت العمارة التي هاجموها نقيضها ومسببها ورمزها. وهنا لا أقصد العمارة المرفهة فقط، بل العمارة بالمجرّد، تلك الصفة التي تُمنح لبعض المباني لتمييزها عن كل ما بني من دون تدخّل معماري.
فعلى الرغم من الجذور المعرفية الإنسانية للعمارة الحديثة، فهي كانت ولا تزال أولاً وقبل كل شيء تعبيراً عن مموّليها، سواء كانوا أفرادًا أو كيانات جماعية. فهم عادة الذين يمتلكون الوسائل لتمويل وتنفيذ تصاميم المعماريين التي كانت ستبقى حبراً على ورق (أو نبضات إلكترونية على شاشات الكومبيوتر اليوم) لولا تمويلهم.
العمارة ليست محايدة، إنها مجال الأقوياء والأغنياء
والعمارة على ذلك، وإن كانت تعكس ابتكارات وحلولاً وربما جماليات المصممين، إلا أنها بالمحصلة تخضع لميول الممولين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وللصورة التي يرغبون بإضفائها على أنفسهم وعلى مؤسساتهم ومعتقداتهم. وهي بالتالي غير محايدة. بل على العكس من ذلك، العمارة هي مجال الأقوياء والأغنياء: النخبة الاجتماعية والأفراد الأثرياء أو الشركات والمسؤولون الحكوميون رفيعو المستوى. فهذه الجماعات تفترض أن لها الحق في اختيار وتمويل وتنفيذ العمارة وإضفاء المعنى عليها بحكم سلطتها، والتي أحياناً ما تكون ضمنية تتستّر وراء الهيئات واللجان والمتخصصين، خاصة في عالمنا المعاصر. ولكنها لم تكن كذلك دومًا، فهناك تاريخ طويل لتحكم السلطة بالعمارة ممتد لآلاف السنين كانت فيها العمارة في الواقع تعبيراً صرفاً عن السلطة: معابد للآلهة وكهنتهم ومدافن لكبرائهم، وقصور للملوك والأمراء والأثرياء الأحياء وأضرحة للأموات منهم، وقلاع للزعماء الأقوياء تحميهم من غضب الجماهير، ومعاهد فخمة لتحصيل المعرفة وتخزينها مخصصة للنخب فقط. كانت للفقراء مقابل ذلك أكواخهم البسيطة وأحياؤهم المكتظة التي تكتسب شكلها من مكانها وتقاليدها بدون أي تدخل معماري.
مع دخول عصر الصناعة في القرن التاسع عشر، توسّع الحق في العمارة، مثل الحقوق الأخرى التي امتلكها عادة النبلاء ورجال الدين (أو ما يعادلهما في الثقافات الأخرى) حصراً، لكي يضم فئات جديدة صاعدة اقتصادياً: التجار والمموّلين والصناعيين والبيروقراطيين والمهنيين. بدأت هذه الطبقات حديثة الثروة بالتنافس مع الطبقة الأرستقراطية القديمة على تمويل وإنتاج وإشغال وترميز العمارة، على الرغم من أنها لم تتمكن من الحلول محلّها بالكامل. ولكن شرائح المجتمع الأخرى - الفقراء، والطبقات العاملة أو المهمشة اجتماعياً - بقيت بدون ذلك الحق على الرغم من ثوراتها السياسية الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين في البلدان النامية والمتقدمة على السواء. فالفقراء والمهمشون بدءاً لم يحصلوا على العمارة الخاصة بهم لعدم قدرتهم على دفع ثمنها. ولم يتمتعوا بالعمارة التي أقيمت باسمهم ثانياً، أي العمارة العامة، على الرغم من كونهم يشكلون غالبية مستخدميها. هي في الحقيقة بنيت لاحتوائهم والسيطرة عليهم، ما أدى إلى تقنين استخدامهم لبعض مظاهرها وحظرت عليهم مناح أخرى منها بحجة الصحة العامة أو الأمن أو غيرها. بل إنهم لم يكن لهم رأي في تصميمها إلا في ما ندر، حتى عندما ابتكرت طرق إحصائية لاستطلاع آرائهم كمجموعات وإدراج هذه النتائج في إرشادات التصميم للمشاريع العامة الكبيرة.
التخريب والنهب ليسا إلّا شكلَين آخرَين من أشكال الحيازة
من هنا يمكننا أن نفهم أن الثورة، أو الانتفاضة أو أي اسم آخر تطلقه الصحافة عليها، وهي المطالبة بتغيير جذري إثر عنت كبير، هي ملاذ المهمشين الأخير: الفقراء المكتظون في الأحياء المتهالكة والممنوعون من مغريات المدينة وأفراد الأقليات المستضعفة المحرومون من الحقوق العامة التقليدية. وهم أيضاً الذين لا يملكون الحق في العمارة.
تنفجر هذه المجموعات في لحظات الغضب والقهر واليأس من أي إصلاح جدّي عندما تواجه تحديات وجودية على أيدي السلطة، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وكما حصل قبل عقد في العالم العربي. تنطلق هذه المجموعات المهمشة من "حظائرها" المدنية لاحتلال فراغات المدينة التي يمكنها الوصول إليها بشكل جماعي والتي لا تستقبلها عادة أو تستقبلها وفق قيود وطقوس: قلب المدينة التجاري، الشوارع والساحات العامة، إدارات الدولة، أماكن العبادة والترفيه والتسوق. تعبّر الجماهير في احتلالها للفضاءات المدنية هذه عن جوعها للمطالبة بالعمارة التي بنيت أساساً باسمها الجماعي.
إن احتلال هذه الفراغات المعمارية وملأها بمسيرات جماهيرية صاخبة، والكتابة على جدرانها، وإقامة الهياكل المؤقتة في ساحاتها يشبه بالفعل امتلاكها، على الأقل مؤقتًا. هذه الأفعال بمجملها هي تعبير عن إرادة الاستيلاء على العمارة العامة كبديل للحق المفقود في الملكية القانونية للعمارة. وهي تأتي بأشكال مختلفة تهدف إلى تحدي دور العمارة الراسخ في النظام الاجتماعي السائد أو حتى الإطاحة به، من خلال أفعال الاحتجاج والعصيان، التي تهدف إلى تحوير أو إعادة ترتيب الوظائف والمعاني المنسوبة إليه. يمكن أن يتم ذلك من خلال عمليات توغل مفاجئة داخل العمارة المرفهة من مراكز تسوّق ومباني مكاتب، أو عندما يحتل المحتجون شارعاً مخصصاً للسيارات ويحوّلونه لبحر من الأجساد الهادرة التي تسير في الاحتجاج حاملة لافتات وأعلام ورافعة قبضاتها لتأكيد مطالبها، أو عندما يتحوّل مكان هادئ للصلاة إلى مستشفى ميداني على عجل لمعالجة المصابين والجرحى. بل إن التدمير والتخريب والنهب من هذه الأماكن أو تشويهها في أعمال الشغب ما هو إلا شكل آخر من أشكال الحيازة، حيث إن الثائرين الغاضبين لا يمتلكون أي وسيلة أخرى لامتلاك هذه العمارة المحرّمة.
لقد شهدنا جميعًا مثل هذه الانفجارات في مناطق مختلفة حول العالم في العقد الأخير، من كييف، إلى طهران، إلى هونغ كونغ، إلى باريس، وإلى مختلف مدن الربيع العربي. والآن نشهدها في المدن الأميركية المنتفضة من أجل حقوق السود. وكل هؤلاء المحتجين يُدركون، وإن بطريقة عفوية، أن العمارة التي يهاجمونها هي عمارة مناوئة تماماً كما أدرك ثوار باريس أن قلعة الباستيل الهائلة عدو يجب تدميره. ودمروه في تموز/ يوليو عام 1789.
* مؤرّخ ومعماري مقيم في الولايات المتحدة