إلهام أميركي: "الذئاب المنفردة"

17 يناير 2015

أسرة تونسية تقرأ الفاتحة لروح شكري بلعيد (10 فبراير/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -
راج، أخيراً، في حسابات شخصية في "فيسبوك" و"تويتر"، مؤيدة للتيار السلفي الجهادي في تونس، هاشتاغ #الذئاب_المنفردة. وقد برز في السياق التونسي يوم 4 يناير/كانون الثاني الجاري، بعد اغتيال عون أمن في ريف مدينة الفحص في محافظة زغوان. وبسرعة، تم القبض على ثلاثة شبان، اعترفوا حسب تسجيلات بثتها وزارة الداخلية (واعترضت على بثها "الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري"، بوصفها تضرب الحقوق الدستورية للمتهمين) أنهم قرروا، بشكل منفرد، اختيار هدف واستعمال أبسط الوسائل (أسلحة بيضاء)، واختيار التوقيت والمكان للقيام بذلك. يبدو ذلك غير منفصل عن دعوات قيادات سلفية جهادية تونسية التحقت بتنظيم داعش (أبو بكر الحكيم وكمال زروق)، تدعو فيها إلى "إحياء سنة الاغتيال"، وذلك قبيل موعد الانتخابات الرئاسية أخيراً.
ولكن، على الرغم من أن استعمال الهاشتاغ (#الذئاب_المنفردة) جديد في السياق التونسي، فإن العمليات التي يمكن وصفها في تونس بهذا المعنى غير جديدة. وعموماً، أصبح هذا التكتيك ذا أولوية في سياقات جيوسياسية، يصعب فيها على تنظيمات السلفية الجهادية، القاعدة أو "داعش"، العمل بشكل مريح. وعملية باريس أخيراً، حيث هناك مناخ سائد معاد للإرهاب، والتي تعاون فيها إرهابيون من القاعدة و"داعش" أبرز الأمثلة على أننا بصدد موجة قوية في صالح هذا النوع من العمليات التي يمكن أن نطلق عليها "إرهاب الحد الأدنى"، والذي يتم تعريفه باختصار مكثف في تغريدة منسوبة لحساب "تويتر" موال للقاعدة: "#الذئاب_المنفردة خطط اضرب واهرب واحرص أن تستكشف المنطقة، أولاً، وأن تغطي لوحات السيارة، وانتبه من وجود كاميرات مراقبة".
تعريف التكتيك الإرهابي المعنون "الذئاب المنفردة" تتم نسبته عموماً لإسهامات القيادي في "تنظيم القاعدة في اليمن"، أنور العولقي، وتحديداً لسلسلة مقالات كتبها بين سنتي 2010 و2011 في المجلة الناطقة بالإنجليزية، باسم تنظيم القاعدة، "INSPIRE". ويتضمن عدد صيف 2010 للمجلة بشكل خاص تركيزاً على هذا النوع من العمليات، حيث تقرر خلية لا يزيد عناصرها على بضعة أفراد المبادرة باختيار الهدف والتوقيت والمكان، واستعمال أبسط الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف. وتضمن ذلك مقالاً للعولقي، يتحدث فيه خصوصاً على تحديد قائمة أهداف اغتيالاتٍ، تخص من أساء للرسول، وخص بالذكر الرسامين. وكان رشيد الكواشي، أحد المتهمين بعملية "شارلي إيبدو" قد صرّح في حوار صحافي، نشر يوم ملاحقته وتصفيته بعد العملية، بأنه تلقى تعليمات وتمويلاً مباشرا من العولقي للقيام بعملية بهذا الصدد، قبل اغتيال الأخير في سبتمبر/أيلول 2011.
المفارقة أن العولقي، الأميركي مولداً، والذي يتكلم الإنجليزية، بطلاقة، يبدو متأثراً بمفهوم أميركي أساساً للإرهاب. فمفهوم "الذئاب المنفردة" إبداع خاص مسجل للإرهاب الأميركي "الأبيض" العنصري، إذ إن من بين أول من استعمله المنظران، أليكس كورتيس وتوم ماتزغار، بدايات تسعينيات القرن الماضي، وحدّدا تعريفه بأنه "عمليات منفردة، لعدد محدود جداً من الناس"، يقومون فيها بتحديد الأهداف والتوقيت والمكان، بشكل يبدو "مجهولاً"، وغير مرتبط بقيادة مركزية. يتم ذلك في مناخاتٍ معادية، يسهل فيها استخباراتياً رصد الهجمات
 الإرهابية. وعموماً يتم نسب العملية الإرهابية في أوكلاهوما التي قام بها الناشط العنصري، تيموثي ماكفاي، إلى هذا النوع من التكتيك الإرهابي.
لكن، مع ذلك، يجب القول إن هناك أصولاً عربية، وليس أميركية فحسب، لهذا التكتيك. وكان أبو مصعب السوري، وهو أحد أبرز المنظرين لتنظيم القاعدة، كان قد كتب مقالاً قبل سنوات، نظّر فيه لما سماه "الاغتيال الفردي". بناء على تجربته الطويلة في الإرهاب، والتي ترجع إلى مذابح حماة، بداية الثمانينيات، يعتبر السوري أن هناك سياقات أمنية صعبة، لا يمكن فيها للإرهاب أن يتوسع بشكل مطلوب، ولا يمكن اعتبارها "ساحات جهادية" مركزية، من الأفضل فيها القيام بعمليات اغتيالات محدودة، تكون فيها المبادرة لمجموعة محدودة من الأفراد في اختيار هدف الاغتيال والمكان والتوقيت. وقد أعيد نشر المقال في عدد خاص في مجلة "إنسباير" في ربيع 2011، أي في سياق الثورات العربية.
من جهة أخرى، ومع الرواج الكبير لاستعمال الإنترنت، أصبح هذا النوع من الإرهاب أكثر قابلية، خصوصاً في الدول الغربية، أو الدول الإسلامية التي لم يتغلغل فيها الإرهاب بعد، بشكل يجعله يسيطر على مناطق كاملة (وهي الحالة التونسية). وتقدم منتديات الإنترنت الجهادية أمثلة عديدة على تسهيلات لوجيستية، وتعليمات تبسيطية، للقيام بعمليات إرهابية. في العدد نفسه الذي نشر فيه العولقي مقاله لمجلة "إنسباير"، مقال يتم ترويجه، أخيراً، تحت هاشتاغ "الذئاب المنفردة"، يتميز بعنوان فريد: "كيف تصنع قنبلة في مطبخ بيتك؟". عدم الحاجة الى الارتباط بقيادة مركزية مباشرة وحرية المبادرة تبدو، في الحقيقة، منسجمة مع وضعي "القاعدة" و"داعش".
القاعدة التي تعرف انحساراً في شعبيتها، مقارنة بـ "داعش" التي قررت اعتماد استراتيجيا "الدولة القاعدة" في إطار مركزي، أي سورية والعراق، وهما يحتاجان إلى ضمان ديمومة الإشعاع في مناطق يعانون فيها من ضعف. طريقة المجموعات الضيقة التي تقوم بالمبادرة، والتي تركز على اغتيال أفراد مشهورين، أو اغتيالات يمكن أن تحدث الفوضى (رهائن)، بما يحقق الفرقعة الإعلامية المناسبة، تبدو خياراً مثالياً وفعالاً.
يعيدنا ذلك إلى السياق التونسي والعمليات الإرهابية التي ركزت على اغتيالات سياسية لزعزعة المسار الديمقراطي بين سنتي 2013 و2014، خصوصاً التي قادتها مجموعة من الناشطين في إطار تنظيم "أنصار الشريعة"، مثل كمال القضقاضي وأبو بكر الحكيم ولطفي الزين وعز الدين عبد اللاوي. في اعترافات بعض المتورطين في العمليات، والتي ستظهر للعيان، بمجرد بدء المحاكمات المبرمجة قريباً، تبين أنهم ضغطوا على زعيم التنظيم، أبو عياض، للبدء بعمليات في السياق التونسي منذ سنة 2012. الأخير الذي لم يكن مقتنعاً، لأسباب تكتيكية، في البداية، اضطر، في النهاية، إلى التماهي مع هذه المجموعة، وابتدع مفهوم "الجهاد اللين". وهي الترجمة التونسية الخصوصية في الحقيقة لتكتيك "الذئاب المنفردة". تكتمل الدائرة عندما نعرف أن أحد أهم العناصر المسؤولة عن الاغتيالات في تونس، أبو بكر الحكيم، كان عضواً في الخلية المعروفة بـ"الدائرة 19" سنة 2005 في ضواحي باريس مع رشيد الكواشي.
كانت الاغتيالات السياسية في تونس، أو حتى محاولات الاغتيالات الفاشلة، من أهم الأحداث التي أدت إلى تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي وحرفه عن طريقه. ليدفع باتجاه مقولة "الأمن أولا"، ورجوع المنظومة القديمة عبر صناديق الاقتراع والأغلبية الشعبية. وهو مثال بارز على قوة هذا التكتيك البسيط في قلب موازين سياسية كاملة في إحدى أهم التجارب الديمقراطية عربياً.
C8C9BE5C-F460-4E21-A220-CCC11DED2AB2
طارق الكحلاوي

كاتب وأكاديمي وباحث تونسي. المدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة روتغرز الأميركية، عضو المكتب السياسي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية.