مضيّ النظام المصري في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، مستعيناً ببرلمان يسيطر عليه سيطرة تامة، أدخل مصر في مسار سياسي قد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار، ويقود النظام من مأزق إلى مأزق. فمن جهة أولى، يزداد الحديث عن وجود نقمة داخل الأجهزة السيادية المصرية على ما حصل. ومن جهة ثانية، تفرط الدوائر الأمنية للنظام باستخدام وسائل القمع لتشديد القيود الأمنية على وسائل الإعلام وسط استمرار الحملة الأمنية على شباب الأحزاب والتيارات السياسية المختلفة منعاً لاتساع حجم الفعاليات الرافضة لاتفاقية تعيين الحدود البحرية مع السعودية بعد إقرارها من قبل البرلمان وإرسالها للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لإصدارها نهائياً. ومن شأن ذلك أن يفاقم النقمة الشعبية ويربك النظام أكثر فأكثر على الساحة الدولية. ومن جهة ثالثة، يساهم إصرار النظام على تمرير الاتفاقية في البرلمان، بإثارة توترات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبين السلطة القضائية التي لن تتقبل مخالفة أحكامها بشأن مصرية الجزيرتين ودورها المستمر في متابعة القضية.
ويأتي هذا في وقت احتفت فيه الصفحات الإلكترونية لضباط وأمناء وأفراد الشرطة بإفطار السيسي مع أفراد كمين تفتيش أمني بالقاهرة خلال يوم إقرار الاتفاقية نهائياً. ولم تصدر هذه الصفحات أي رد فعل تجاه ما حدث بالبرلمان، ما يرجح، بحسب مراقبين، أن مبادرة السيسي كان الهدف منها كسب الشرطة لصفه في مواجهة معارضيه.
ويسود الارتباك صفوف المعارضين للاتفاقية والمنتمين لأحزاب وتيارات ثورة 25 يناير، خاصةً بعدما أعلنت قوى محدودة التأثير ولم يعرف عنها التحرك الميداني من قبل، كمجموعة "إحنا آسفين يا ريس"، المؤيدة للرئيس المخلوع حسني مبارك، انضمامها لحملة معارضة الاتفاقية. وهذا ما فسره مصدر مؤثر في تيار سياسي يساري باعتباره "محاولة استخباراتية لضرب الحراك الشعبي المعارض للسيسي، واستدعاء الخلافات الأيديولوجية لعرقلة أي خطوات تصعيدية مقبلة". وفسر مصدر آخر بحزب "الوفد" هذه التحركات بوجود معارضة شديدة للتفريط في الجزيرتين داخل أجهزة أمنية وسيادية، وتحديداً في الدائرة الاستخباراتية القديمة الموالية لنائب رئيس الجمهورية الأسبق عمر سليمان، وهي دوائر مناوئة بطبيعتها للسيسي، وتسعى لإرباكه من خلال ادعاء مشاركة المجموعات التابعة لها في الفعاليات المعارضة، دون مشاركة فعلية.
وفي سياق التشديد الأمني أيضاً، قال مصدر إعلامي بإحدى الصحف الموالية للسيسي، إن تعليمات مشددة صدرت من الدائرة الاستخباراتية - الرقابية المحيطة برئيس الجمهورية، ويديرها مدير مكتبه، عباس كامل، للصحف والقنوات الفضائية بضرورة وقف نشر مواد إعلامية مثيرة للجدل حول الجزيرتين أو إبراز المواضيع المرتبطة بهما، مثل التظاهر، حتى يكف الرأي العام عن الحديث في القضية لحين إصدار السيسي الاتفاقية رسمياً لتدخل حيز التنفيذ. ويبدو السيسي جاداً في سرعة إصدار الاتفاقية حتى يغلق الملف للأبد، حسب تصوره. وفي هذا الصدد، ذكرت المصادر الحكومية أن مجلس النواب سيرسل الاتفاقية بمحاضر إجراءات إقرارها خلال ساعات إلى رئاسة الجمهورية، مرجحةً أن يصدرها السيسي رسمياً قبل الأول من يوليو/ تموز المقبل، على أن تجرى مراسم تسليم الجزيرتين للسعودية سراً وبدون إعلان، مراعاةً لمشاعر المصريين وخشية من عودة التوتر للشارع مرة أخرى.
وأكدت هذه المصادر أن الفترة المقبلة ستشهد بداية الترويج الإعلامي لمشروع جسر الملك سلمان، الذي سيربط بين السعودية ومنطقة نبق بسيناء. وسيبدأ مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء حملة دعائية لهذا الجسر وتصوير إنشائه كإنجاز غير مسبوق في تاريخ التعاون العربي. وتتم المفاضلة بين مشروعين؛ الأول، ارتكاز الجسر على جزيرة تيران، والثاني أن يتم مد الجسر على أكثر من مرحلة بين منطقة رأس الشيخ حميد بالمملكة ثم جزيرة صنافير ثم جزيرة تيران ثم نبق. وأوضحت المصادر الحكومية أن "الجانب السعودي المتكفل بتمويل المشروع بالكامل، يميل إلى المشروع الثاني لإحياء الجزيرتين وتحويلهما إلى منتجعين سياحيين صالحين للاستثمار". وأشارت إلى أن هناك اشتراطات لم تناقش حتى الآن حول طرق تفادي إعاقة الملاحة في المياه (التي أصبحت دولية) بمضيق تيران، وهي شروط أشارت إليها إسرائيل منذ عدة أشهر. وأضافت المصادر أنه من المتوقع أيضاً عقب إصدار الاتفاقية بقرار جمهوري أو بقانون (حسب توصية المستشارين القانونيين للرئاسة) سوف ترسل السعودية 300 مليون دولار إلى مصر كدفعة ثانية من الاتفاق المبرم بين الحكومتين في إبريل/ نيسان 2016 لتنمية سيناء ورفع كفاءة القرى والتجمعات الحضرية بها، علماً أن مصر تلقت الأسبوع الماضي، 400 مليون دولار كدفعة أولى من هذه المنحة.
من جانب آخر، يرى بعض الخبراء القانونيين أن موافقة البرلمان على الاتفاقية ينهي أي أمل مستقبلي لمصر في اللجوء إلى التحكيم الدولي لاسترداد الجزيرتين من السعودية، إلا إذا أثبت أي نظام مصري مقبل أن غشاً قد جرى لإقرارها. ويرى آخرون أن على معارضي الاتفاقية الاستمرار في نضالهم القانوني ضد السيسي سواء باستصدار أحكام من مجلس الدولة بعدم سلامة الاتفاقية وبطلان قرار الحكومة بإحالتها للبرلمان بالمخالفة لحكم القضاء، أو الحصول على تصريح للطعن عليها بعد إصدارها أمام المحكمة الدستورية، باعتبارها أصبحت في حكم القانون. ويعتبر الرأي الثاني أن تعدد إصدار هذه الأحكام سيكون له حجة لدعم أي تحرك مصري مستقبلي، على الرغم من أن القضاء الدولي لم يلغ من قبل أي اتفاقية دولية لوجود أخطاء في تطبيق التشريع الداخلي للدولة الطرف، طالما كان الاتفاق قد تم إقراره من السلطة التشريعية المختصة بذلك.
ويقول مصدر قضائي بمجلس الدولة إن المسارين الأساسيين للقضية سيقتصران على المحكمة الدستورية ومجلس الدولة؛ فالمحكمة الدستورية أمامها منازعة التنفيذ المقامة من الحكومة لإلغاء حكم مصرية الجزيرتين، ودعوى تنازع الأحكام المقامة من الحكومة أيضاً بحجة تناقض الأحكام الصادرة من مجلس الدولة ومحكمة الأمور المستعجلة، كما ستكون المحكمة الدستورية هي المآل الأخير لأي دعوى جديدة يرفعها معارضو الاتفاقية بعد صدورها، وفق المصدر. أما مجلس الدولة الذي أهدر البرلمان أحكامه، فأمامه عدد من الدعاوى التي قد تعمق الأزمة بينه وبين النظام الحاكم؛ الأولى هي الخاصة ببطلان إحالة الاتفاقية إلى البرلمان، وإذا صدر حكم فيها بالبطلان أو الإحالة للدستورية سيكون مجلس الدولة قد اتخذ خطوة جديدة للتصعيد؛ والدعوى الثانية هي التي أقامها المحامي خالد علي، لحل البرلمان باعتباره فاقداً لمشروعيته بتفريطه في وحدة أراضي الدولة، وهي قضية ذات طبيعة سياسية بحتة لأن من شأنها إلصاق اتهامات خطيرة بالسيسي والبرلمان، وفق تأكيد المصدر نفسه.
وأوضح مصدر في مجلس الدولة أن محاكم المجلس لن تتخذ إجراءات في الدعاوى المقامة أمامها إلا بعد استبيان نوايا النظام تجاه المجلس على عدة أصعدة، أبرزها تعيين رئيسه الجديد بعدما رشح المجلس اسماً واحداً هو المستشار يحيى دكروري، صاحب حكم بطلان التنازل عن الجزيرتين، ما يمنح السيسي نظرياً الحق في اختيار أي قاضي من أقدم 7 قضاة لرئاسة المجلس. أما الصعيد الثاني، فيتمثل في النوايا الحكومية والتشريعية التي تتداول الصحف أنباءها بشأن الانتقام من مجلس الدولة، كإلغاء ندب قضاته للهيئات الحكومية ومقترح إلغاء المجلس وتأسيس قضاء موحد، على الرغم من أن هذا المقترح يتطلب تعديلاً واسعاً في الدستور. وشدد المصدر على أن محاكم المجلس أدت ما عليها في قضية تيران وصنافير، لكن الاتجاه المسيطر عليها الآن هو التهدئة لحين ظهور نوايا السلطة، وما إذا كانت قد صنفت المجلس سياسياً، وهو ما قد يهدد بقاءه مستقبلاً.