إن التأمل في مسارات الشباب الفاعل في مسيرة الثورات العربية، سيبيّن قلّة انخراطهم في العمل السياسي مقابل كثرة انخراطهم في مؤسسات المجتمع المدني التي تكاثرت كالفطر في كل بلدان الثورات، الأمر الذي ساهم جزئيا بعدم تحقيق الثورات أهدافها، بإرساء دولة القانون والحريات عبر تغيير البنية الصلبة للنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي لم يتعرض لأي تغيير إلا على مستوى السطح.
انطلقت الثورات بسواعد الشباب، بفعل ثلاثة عوامل، أولها: تهميشهم من قبل النظام سياسيا واقتصاديا حيث أغلبهم عاطل عن العمل ومكبل اليدين عن أي مبادرة، وثانيها: خبرتهم بوسائل التواصل الحديثة التي استغلت خير استغلال لكسر هيمنة السلطة على المجال العام، وثالثها: بعدهم عن العمل السياسي مما جعل أعين السلطات بعيدة عنهم عبر تركيزها على المعارضة التقليدية، فتفاجأت بهم في الساحات، ليتعلّم الشباب من تجربتهم في الميدان، مراكمين خبرة وضعت في خدمة الحراك الذي أسقط النظام في بعض الدول وعجز عن ذلك في دول أخرى.
بعد انتصار الثورة (مصر، تونس) أو استعصائها بعد تحولها إلى عنف مسلح ( سورية، اليمن، ليبيا)، كفّ الحراك المدني عن أن يكون فاعلا بشكل مباشر، فوجد الشباب الفاعل نفسه، أمام سؤال: ما العمل الآن؟ وكون الإجابة تأتي دوما من واقع ما يملكه كل فرد وما يمكن أن يقدمه، فإن الجواب جاء من خلال استغلال الشباب لما اكتسبوه من معارف وخبرات خلال حراكهم الميداني، فكان أن سعى كل منهم لمأسسة خبرته في مؤسسة: إغاثة، إعلام، حراك ثوري، تنمية، دعم نفسي، طفولة، نقابة.. لتولد العديد من مؤسسات المجتمع المدني، مستفيدة من تمويلات، أوروبية في أغلب الأحيان، ضخت في هذا المجال، بعضها بريء النوايا وبعضها ليس بريئا.
قلّة من الشباب ذهبت باتجاه العمل السياسي بسبب ما ذكر سابقا، مضافا له عجز المعارضات على اختلاف أشكالها عن مد جسور التواصل مع الشباب، لأسباب تتعلّق بطبيعة ممارسة السياسة لدى هذه الأحزاب المتكلسة إيديولوجيا وتنظيميا، وبسعيها لقطف ثمار الحراك وجعله يصب في طاحونتها السياسية بعيدا عن الاعتراف بدور هذا الشباب وحقه في أن يكون ممثلا في قيادة هذه الأحزاب، التي عزف عنها الشباب لضعف تراكمه في المجال السياسي، ولكونه توّهم أنها (المعارضة) قادرة على قيادة ضفة السفينة قبل أن يكتشف وهمه، ليزداد الأمر تباعدا بين الطرفين بسبب السلوكيات التي نشأت عنها خلال مسار الثورات الطويل، فتبين للشباب أنها "قفا السلطة"، فهجروها نحو المجتمع المدني، محملين برؤية سلبية مضاعفة عن السياسة والعمل السياسي. وهنا الكارثة.
على الرغم من أهمية المجتمع المدني ودوره الفاعل في أي دولة، إلا أنه سيكون عاجزا عن تحقيق أي شيء في ظل غياب المجتمع السياسي الحقيقي، لأن الثورات أساسا اندلعت ضد سلطات غيبت السياسة من المجتمع وحصرتها بيد نخبة سواء أكانت سلطة أو معارضة، الأمر الذي يعني أن الثورات لن تحقق أهدافها دون استعادة المجتمع حقه في ممارسة السياسة وانخراط الشباب في التأسيس لذلك، عبر وضع أسس جديدة لحياة حزبية سياسية تقطع مع الميراث السياسي القديم وتقدّم رؤيتها الجديدة لتصل السلطة التي هي مجال القدرة على العمل والتغيير.
من هنا قد يكون النقد الذي يوجهه اليسار عموما للمجتمع المدني المموّل غربيا فيه بعض الدقة، حين يكون دعمه وتضخمه على حساب المجتمع السياسي، لأنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى ولادة دول عرجاء مفتوحة أمام التدخلات الغربية من باب المجتمع المدني نفسه، وحتى يكون الأمر متوازنا لا بد من توّزع الشباب على المجالين المدني والسياسي، ليضع السياسي أفكار الثورة وأهدافها في برامج عمل حقيقية، في حين يبقى المجتمع المدني رقيبا على السياسة من جهة، وفاعلا من جهة أخرى في تعبئة المجتمع في المجالات التي لا تصل إليها الدولة أو السياسة.
(سورية)