إعلان عمّان لحقوق الإنسان... حجرٌ في مياه راكدة

07 سبتمبر 2016
+ الخط -
تقولُ مجموعةٌ من الناشطين في الأردن، أطلقت في 21 من الشهر الفائت (أغسطس/آب) ما أسمته "إعلان عمّان 2016 لحقوق الإنسان"، أنها رصدت انحساراً مُقلقاً في مساحات العمل العام في الأردن، كان أبرز نتائجه، بحسب بيانها المرافق للإعلان، نكوصاً عن الانخراط في نقاش وإبداء الرأي ووضع التصورات ومشاريع الحلول من قطاعات واسعة من النشطاء والمهتمين والفاعلين على الصعيد الوطني، محذرةً، في الوقت ذاته، من ما وصفتها "مخاطر الانغلاق الكلي للمساحة السياسية في البلاد".
ولعل ما ورد في البيان المرفق للإعلان من تأكيد على "أن أشكال التداول الفاعلة والفعالة تتجاوز التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي، والنشر عبر المواقع الإلكترونية، إلى تحركاتٍ ذات طابع منظم وجماعي، تهدف إلى طرح مشاريع حلول، والعمل من أجل تحفيز قطاعاتٍ أخرى في المجتمع، لتبني هذه الحلول" من شأنه أن يُلخص مشهد "الفعل" أو "اللا فعل" في السياق المتعلق بحماية حقوق الإنسان، والدفاع عنها.
ويحتوي إعلان عمّان 2016 لحقوق الإنسان على عشرة مبادئ عامة، ترتبطُ بفهم قانوني وقيمي لما بات يُعرفُ على نطاق عالمي "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان". ولا يُنتجُ أيٌ من هذه المبادئ العامة، بأي شكلٍ، فهماً جديداً لماهية الحق الإنساني، ولا يُعيد تعريفه (أي الحق) على نحو يختلف عمّا ورد في الصكوك الدولية المتداولة. والأسئلة مشروعة عن الجديد في هذا الإعلان وصدوره، أو على وجه التحديد "لماذا هذا الإعلان؟" و"ما الجديد فيه؟".
وفي المقام الأول، إعلان عمّان 2016 لحقوق الإنسان ليس مشروعاً لقانون جديد، أو اتفاقية جديدة، أو معاهدة أخرى، يستهدف استبدال ما هو قائمٌ وموجود. وعملاً بالتقاليد الدولية التي كرّست قيام "الإعلانات" وصدورها، باعتبارها نقطة توقفٍ ضرورية وحاسمة عند مسائل محدّدة، وذات أهمية استثنائية، بهدف إيجاد موقف جماعي وجمعي منها (أي فيما يتعلق بالمسألة المحدّدة)؛ فإن إعلان عمّان قامَ وصدر، كذلك، لغاية التصدّي لمسائل بعينها.
وتتمثل أولى تلك المسائل في انعدام أجندةٍ عامة لحقوق الإنسان، ويستتبع ذلك، أيضاً، غياباً مطلقاً للنقاش والجدل في المجال العام حول مسائل يُفترضُ فيها أن تتصدّر واجهة النقاش، منها مثلاً التغولُ غير المحدود على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للسكان في سياق التناول اليومي لقضايا مثل الفقر، زيادة الأسعار، تدنّي القدرة الشرائية للأفراد، التوسع في جبي الأموال من دخول الأفراد، وغير ذلك في سلسلةٍ ممتدةٍ ومترابطةٍ من العلاقات السببية، والتي يجب أن تكون محكومةً بواجب الدولة في حماية حقوق الفرد؛ وقدرة الفرد، ومجموع الأفراد، على "مُساءلة" الدولة وجهازها العام عن إخلالها بهذه الحقوق.
ومن المفروض أن الأجندة العامة، في أي سياق مجتمعي، تتبلور وتنبثق من خلال تأثير قوى
مجتمعية و"سياسية"، تفرض حضور هذه المواضيع. وهنا، تبرز لربما المسألة الثانية التي خرج إعلان عمّان من فراغها؛ وهي بالضبط عدم وجود قوى مجتمعيةٍ تضع من حقوق البشر ديدناً وإطاراً مُرشداً لعملها ونشاطها. ويُشيرُ مصطلح "القوى المجتمعية" إلى إطارٍ واسعٍ من التجمعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء ارتبطت ببعضها أم لم ترتبط، والتي من شأن مصالحها وقيمها ونفوذها أن تعود بالنفع لغاية حماية الحقوق وتعزيزها. وهو، بالتالي، إطار أكثر اتساعاً من "مؤسسات المجتمع المدني" أو "منظمات حقوق الإنسان". وليس للحقوق نصيبٌ في تشكيل القوى المجتمعية هنا.
والمسألة الثالثة، والأبرز في هذا السياق، تستمدُ جذورها من المشهد العربي المتسع على انقساماتٍ امتدّ تأثيرها، على نحوٍ مؤسف، لعناصر ومكونات مهمة، مثل منظمات حقوق الإنسان والمدافعين عن حقوق الإنسان. والمقصود هنا ليس ظاهرة "تسييس حقوق الإنسان"، لتخدم أغراضاً لحكومةٍ ما أو جهةٍ ما بعينها، بل بشكل أدق هو "تفسير" حقوق الإنسان لتصبّ في صالح سياسة، أو مجموع سياساتٍ، انتهجها حكمٌ أو طرفٌ ما في المشهد الممتد سنوات طويلة. وأكثر الأمثلة البارزة على ذلك خروج منظماتٍ "حقوقية" أو "كانت حقوقية"، لتتبنى موقفاً يُبررُ ويفسرُ ارتكاب حكومة عربية مجزرة ضد متظاهرين سلميين. وتتعدّى المسألة مجرد اعتبار أن هناك فقداناً للبوصلة على نحو عام، إلى مسألة أكثر حيويةً ودقة، تتلخص في أن حقوق الإنسان معايير واضحة، من المستحيل تأويلها بغير ما قامت من أجله: حماية الحق المتأصّل للإنسان في الحياة، وما يستتبع ذلك من مستلزمات لاستمراره حياً، وبما يحفظ كرامته، ويحقّق العدل والمساواة بينه وبين أقرانه من البشر الآخرين.
ولذلك، من الممكن فهم إعلان عمّان 2016 لحقوق الإنسان باعتباره "كتيباً إرشادياً" للدفاع عن هذه الحقوق، وليس تأويلاً لها. فالإعلان ينص، من ضمن مبادئه العشرة، على أن حقوق الإنسان واحدةٌ لا تتجزأ؛ وليست انتقائيةً؛ وأنها مُجرّدة، ولا يمكن تفسيرها وفقاً لمعطياتٍ سياسيةٍ أو اجتماعية أو أمنية محدّدة، وأنها لا تتأثر بأي خصومةٍ سياسيةٍ أو عقائدية أو اجتماعية.
ومن السهل الخلوص إلى أن إعلاناتٍ، مثل هذه، تصلح في مساحاتٍ كبرى، مثل مصر، وتصلح كذلك في سياق أعم وأشمل على الصعيد الجمعي العربي. لكن إعلان عمّان، بحد ذاته، يُشكّل فرصةً، لربما لعدد قليل ومحدود من الفاعلين في الأردن إلى التجمع والالتقاء على قاعدةٍ واضحةٍ، ليس فيها من شوائب الجدل السياسي وتجاذباته أي شيء، ومحاولة إعادة وضع حقوق الناس على الأجندة العامة للبلاد. وليس من الخطأ، أو الشاعرية، أو التجنّي، اعتبار أن إعلان عمّان 2016 لحقوق الإنسان، في أدنى مستويات تأثيره؛ يُلقي بحجرٍ في مياه راكدة، عسى أن تتحرّك وتفيض.
0D42F830-E8EB-4AD9-84F2-8C584BB79687
فادي القاضي

خبيرٌ إقليمي، من الأردن، في مجالات حقوق الانسان والإعلام والمجتمع المدني.