إعلام الصدمة والصدام

08 يونيو 2015

التلفزيونات لم تتحرك بالشكل المطلوب تجاه الهبات الشعبية (Getty)

+ الخط -
كيف يمكن أن نجعل من وسائل الإعلام أداة للتقريب بين الشعوب والثقافات والحضارات والمذاهب الدينية، وإقامة جسور للحوار والتواصل والتفاعل، عوض نسف هذه الجسور وتلغيمها؟ يفترض الجواب وجود قناعات ومبادئ واستعداد فكري ونفسي للانخراط في ورش تاريخي وحضاري، كما أن الأمر يتطلب من وسائل الإعلام، وخصوصاً الغربية، إعادة النظر في كثير من مرجعياتها ومكونات خط تحريرها، ليس في اتجاه ما يخل باستقلاليتها. ولكن، بما يخدم مصداقيتها ويكرس مهنيتها ونزاهتها في التعاطي مع عدد من قضيا وملفات العالمين العربي والإسلامي، وهذا يعني، كخطوة أولى، تقديم نقد ذاتي، بعيداً عن الإحساس بعقدة التفوق. 
مؤكد أن لدى وسائل الإعلام أجندة تجارية وسياسية، يفرضها المالكون والمساهمون، كما أن لديها إكراهات إعلامية تجاه الجمهور، لكن هذه وتلك لا يجب أن تكون مبرراً لارتكاب الأخطاء، والسقوط في الهفوات.
عندما تعرضت مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة، في يناير/كانون الثاني الماضي، لهجوم إرهابي استنكره العرب والمسلمون قبل غيرهم، لرفع الحرج عنهم، ودفع أي قراءة ماكرة، عمدت وسائل إعلام فرنسية كثيرة إلى ترويج خطاب إعلامي جعل ضمنياً من كل فرنسي مسلم إرهابيا محتملا، وبدا من الواضح أن معظم غرف الأخبار وخطوط التحرير لم تتعامل مع ما اعتبر تراجيديا وطنية ألمت بالشعب الفرنسي، بما تمليه مقتضيات المعالجة المهنية بعيدا عن التوظيفات المغرضة، وهو ما حصل عند تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، حيث انخرطت وسائل الإعلام في موجة دافقة من المشاعر الوطنية المتطرفة، مع استعمال كلمات ونعوت أحدثت حالة من الاستنفار العام في وجه الخطر الإسلامي، ما ألب جزءا لا يستهان به من الأميركيين ضد العرب والمسلمين الذين تعرضوا لمختلف مظاهر الإهانة والاحتقار والترهيب النفسي.
وكان الأميركيون، تاريخياً، ينظرون إلى العرب والمسلمين نظرة احتقار، وتعاملوا معهم بكثير من الإهانة، ما بلور تصوراً سلبيا لدى المسلمين اتجاه الولايات المتحدة. وفي طليعة ذلك أن أميركا مرتبطة بإسرائيل، والملاحظ أنه منذ صدمة "11 سبتمبر" وما تلاها من أحداث إرهابية في أكثر من بلد، لم تعمل سوى على تعميق الصور النمطية وتكريسها، فقد تغير التمثل الأميركي لصورة العربي والمسلم بكيفية جوهرية، بعد هذه الأحداث، وغذى هذا التمثل المنزع الديني والأيدولوجي الأصولي في صفوف المحافظين الجدد الذين كانوا يشكلون طائفة مذهبية وعقائدية قائمة بذاتها، وأضفت وسائل الإعلام اليمينية على هذا التمثل بعدا راديكالياً، وهكذا أصبح الإسلام لدى شريحة عريضة من الرأي العام الأميركي هو الآخر بامتياز. وهذا الآخر متعدد الدلالات، ورديف للعنف والرفض والكراهية والتخلف والاستبداد إلخ.
وهذا الآخر الذي حل محل الخطر الشيوعي الأحمر سابقاً، جعل من الموقف المعادي للإسلام مقياسا لحرارة المشاعر الوطنية للشعب الأميركي وحماسها. وإذا كنا نعتقد، أو نقر، بأن هناك صداماً إعلاميا، على غرار صدام الحضارات بين الغرب والعالم العربي والإسلامي، فالمؤكد أن وسائل الإعلام في المنطقة الإسلامية والعربية تتحمل مسؤولية كبيرة في ما يحدث ويجري. لكن، لا بد من طرح أسئلة حول طبيعة هذا الإعلام، من يتحكم فيه، ما نوع الخطاب الذي يروجه، ما هي الرسائل التي يبثها؟ هل يتعلق الأمر بإعلام واحد، أم أنماط متعددة من الإعلام؟
سيقتصر الجواب عن هذه الأسئلة على الإعلام السمعي البصري، لأنه الأقدر على الوصول إلى فئات عريضة من المجتمع. وعليه، يمكن القول إن التلفزيونات الرسمية، والعربية خصوصاً، ظلت أحد العناوين البارزة لجمود النظام السياسي العربي، وعلامة ساطعة على ثقافته الاستبدادية، ونزعته الإقصائية.
فعلى الرغم من الهبات الشعبية التي اندلعت في دول عربية، فإن هذه التلفزيونات لم تتحرك بالشكل المطلوب، ولم تتفاعل مع مطالب الشارع بصورة استباقية وبسلاسة ومرونة. وعوض أن تفتح مساحات وهوامش للحرية والاستقلالية والمهنية، فإنها حرصت على إقصاء مكونات رئيسية من المجتمعات العربية، وأغلقت الباب في وجه المعارضين، وفضلت تجنب إثارة نقاش جدي وصريح حول قضايا حساسة، مثل الإصلاحات السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان والفساد والاستبداد ودولة المؤسسات والحريات الفردية والجماعية والتعدد والتنوع وحقوق الأقليات إلخ.
نسج هذا النوع من الإعلام الرسمي صورة سلبية عن النظام السياسي العربي، ولم يفكر قطعاً في أن يدخل، في أي يوم، مجال المنافسة أو المهنية. وبدل أن يقدم على قرارات جريئة، ويقطع مع المقاربات الأمنية، راوح مكانه، وأضرب عن الإبداع والتجديد وعجز عن إقامة حوار مع الآخر، أو تقديم صورة إيجابية عما يحدث في الداخل العربي والإسلامي، فما كان على الجمهور العربي سوى مقاطعة هذه التلفزيونات، لأنها، ببساطة، تزيّف وتفتري وتمجد وتشجع على ثقافة الاستبداد والرأي الواحد والانغلاق.

من هنا، نفهم إلى أي حد يساهم الإعلام الرسمي العربي في نسج صورة أو خطاب، استغلته وسائل الإعلام الغربية، لتكوين قناعة ليست بالضرورة صحيحة تجاه الإسلام والقيم السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية. وحتى عندما ظهرت عوامل موضوعية، لإحداث نقلة نوعية في المجال الإعلامي، فإن التناسل المضطرد لمجموعة من القنوات العربية، بما فيها الدينية التي أريد أن تلعب دورا في نشر صورة جديدة، وخطاب بديل عن العرب والمسلمين، فإن الأجندة السياسية وراء هذه القنوات لم تتخلص من نظرتها الضيقة والطائفية، ونزعتها المذهبية، فتحولت هذه القنوات، في أحيان كثيرة، إلى وسائل لنشر ثقافة إسلامية محافظة أو منغلقة، ومنحت الكلمة لدعاة ومفتين، تنقصهم مقومات الانفتاح، وإرادة التحاور، فانبروا يطلقون شعارات وخطباً تدعو إلى الجهاد، من دون أفق وبلغة تنتصر للوهم والاندفاع، ولا تتوانى عن شرعنة العنف. فجزء كبير من هذه القنوات تبث برامج محرضة على الفتنة والتكفير والتخوين الديني، ولا تتوانى عن نشر ثقافة القتل والإرهاب، علما أن الجهاد في الإسلام متعدد الدلالات والأبعاد. بما في ذلك اعتبار الفعل الإعلامي الهادف عملاً جهادياً سلمياً، غير أن قنوات كثيرة أطلقت لتسويق خطاب ديني جديد مالت إلى إنتاج ثقافة الموت، التي تعادلها بالجنة في مقابل الجحيم فوق الأرض، خصوصاً في ظل المعطيات الجيو- استراتيجية الجديدة التي تكشف عن تفكك متواصل وغير مسبوق للدول واندثار مأساوي للمؤسسات، فيما يشبه مخططا ملتبسا للعودة بالمنطقة إلى القرون الوسطى وعهود الانحطاط والتسيب والاحتراب الطائفي والمذهبي.
واللافت أن هذه القنوات عوض أن تستدعي علماء منتصرين للعقل والتسامح والانفتاح، وعوض أن تنخرط في عمل إعلامي مهني، يراعي التحولات والإكراهات، نجدها تراهن على دعاة غير مؤهلين في العلوم الشرعية وعاجزين عن فهم مقاصد الشريعة. وعدد منها لا يجد حرجا في تغذية حرب العقائد والتحريض على الاصطدام المذهبي. وقد وجد هؤلاء الدعاة الجدد آذانا صاغية وسط مجتمعات تعاني من نسبة مهمة من الأمية والفقر والهشاشة الاجتماعية والثقافية، فيما أخفق دعاة المؤسسات الدينية الرسمية في تحقيق الانتشار نفسه، ويُعزى نجاح الدعاة الجدد، في المحل الأول، إلى الطرح البسيط والمسطح واعتماد "واقعية اجتماعية" في سرد المشكلات، إضافة إلى تعزيز الشروحات والمداخلات، بقصص تدغدغ عواطف الجمهور، وتنفذ عميقاً إلى قلبه وذاكرته.
تأسيسا على ذلك، نتساءل ألا يشكل هذا النمط من الإعلام شكلا من الأصولية الإعلامية؟ هذا النمط غالبا ما يحرص على العودة إلى الماضي، والتقوقع على الذات، بتركيز الحديث على الهوية المزمنة والخصوصية المعيقة، علما أن فريقا عريضا من المفكرين والمثقفين يعتبرون أن خطاب الهوية والخصوصية، بالصورة السائدة، لم ينتج سوى مزيد من الهزائم والصدمات النفسية، وخيبات الأمل الجماعية، ما يفيد بأنه يتعين على المسلمين، والعرب خصوصاً، أن يرسموا أفقهم الاستراتيجي، بتغيير طريقة تفكيرهم وتربيتهم.