إعادة صياغة معادلة النفوذ في مصر

15 مارس 2016
+ الخط -
حدّثني صديق عاد، أخيراً، من مصر عن الحالة البائسة التي وصلت إليها البلاد، خصوصاً في القاهرة، وكان تعليقه الأكثر دلالة أن "البلاد تبدو وكأنها في حالة إعياء وتعب شديديْن، وأنه لا أفق واضحاً حول كيفية الخروج منها". وكان ردي على قلقه بأن ما يحدث الآن هو النتاج الطبيعي للحكم العسكري الذي ترزح تحته البلاد منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وأن حالة الفشل والوهن الراهنة هي بمثابة الحصاد الطبيعي لحالة النهب والاستنزاف التي تعرّضت لها البلاد في العقود الثلاثة الماضية، وتزايدت وتيرتها خلال الأعوام الأخيرة، بعدما وضع العسكر أيديهم على كل مؤسسات الدولة وأرضها واقتصادها، بشكل مباشر وغير مباشر، وفي ظل عدم وجود أية قوة أو مؤسسة يمكنها إحداث قدر من التوازن مع المؤسسة العسكرية.
الفارق الأساسي بين حكم العسكر خلال الخمسينيات والستينيات وما يحدث الآن أنه جاء، في الماضي، في إطار محاولة بعض "الضباط الأحرار" القطع مع الإرث السياسي والاقتصادي والاجتماعي القديم للنظام الملكي. ولكن، بهدف بناء إرثٍ جديدٍ، كانت أهم ملامحه هي السلطوية والسيطرة العسكرية على الدولة والمجتمع، وتعزيز فكرة الدولة الأبوية التي لا تفرض على مواطنيها عقداً اجتماعياً عبودياً، وفق مبدأ "الخبز مقابل الحرية". بينما لا يعد العسكر الحاليون لا بالخبز ولا الحرية علي طريقة (أجيب لكم منين؟ ومفيش...).
استمر الحضور العسكري في مؤسسات الدولة، طوال العقود التي تلت الفترة الناصرية، من خلال منطق الصفقات السيادية التي نسجتها، وحدّدت أطرها العلاقة الزبائنية بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسات السلطة والنفوذ، كالجيش والمخابرات والشرطة، وإنْ بدرجة أقل. كما جرت عملية إعادة تدوير للقيادات العسكرية والأمنية، بمختلف مكوناتها، داخل مؤسسات الدولة المدنية، فانتقل الحضور العسكري من الثكنات إلى الوزارات والمحافظات والإدارات المدنية المختلفة. وهو ما قام الرئيس المخلوع حسني مبارك بمأسسته، وتوسيع نطاقه، ليشمل فئات أخرى، كالقضاة ورجال الأعمال الذين تحولوا إلى فئات ذات امتيازات خاصة مقابل الصمت على توحش السلطة وبطشها بالمجتمع.
ولئن كانت ثورة 25 يناير بمثابة المحاولة الحقيقية الأولى لتفكيك هذه الأوضاع والعلاقات والصفقات، من خلال إشراك المجتمع والشعب في صياغة أو إعادة صياغة معادلةٍ جديدةٍ للحكم تصب في تحقيق مصالحه مصدراً للسلطة والشرعية، فإن انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013 قد أدى ليس فقط إلى ترسيخ الوضع القديم لعلاقات القوة والنفوذ، وإنما أيضا لإكسابها بعداً شعبوياً، ومحاولة شرعنتها تحت الشعار البائس "تحيا مصر"، ومصر هنا قطعاً ليست مصر "الشعب"، وإنما مصر "الدولة"، وإن كانت دولة باطشة وطائشة وعاجزة.

لم يكن أمام عبد الفتاح السيسي، وهو الذي لا يحمل أي نوع من الشرعية، سواء المكتسبة مهنياً أو المنجَزة سياسياً أو تاريخياً، إلا أن يحاول استرضاء واستمالة الطوائف والفئات التي تمتلك النفوذ والتأثير، إما لكسب ولائها ودعمها، أو محاولة تحييدها مؤقتاً، قبل السيطرة عليها. فكان أن بسط يد المتنفذين داخل المؤسسة العسكرية، لكي يسيطروا ويهيمنوا على الاقتصاد والمجتمع والناس والمؤسسات، بل وأن يعتبروها حقاً مكتسباً، لا يمكن لأحد مساءلتهم عليه، وذلك نتيجة دورهم المزعوم في "إنقاذ مصر من حكم الإخوان".
بكلمات أخرى، ما حدث بعد انقلاب يوليو نوع من الصفقة، أو العقد السيواقتصادي بين السيسي وبقية الجنرالات والباشوات، حول تقسيم الكعكة التي ورثوها من مبارك، ولو على حساب فئات أخرى، كانت تمثل يوماً أحد الداعمين الأساسيين لنظام الحكم، كرجال الأعمال والبيروقراطية، الذين يبدون الآن تذمراً واضحاً (وإن لم يكن تمرداً) من هيمنة العسكر، وحيازتهم على كل شيء، المال والنفوذ والوجاهة الاجتماعية. بل اللافت، أيضاً، حسبما هو متداول في بعض الدوائر القريبة من السيسي، أن الرجل يعيد، بشكل حثيث، هيكلة دائرة نفوذه، من خلال بناء "مركز قوة" جديد داخل مؤسسة الرئاسة من الموالين والتابعين له الذين عملوا معه، في جهاز المخابرات الحربية ووزارة الدفاع عندما تولى قيادتها، على حساب مؤسساتٍ أخرى، كالمخابرات العامة والجيش والشرطة، وهو ما قد يفسر حالة الصراع المكتوم بين هذه الأطراف، ويظهر بجلاء في الدوائر الإعلامية المحسوبة على كل منها.
هذا في وقتٍ لا يكاد يمر يوم، من دون أن نسمع عن وقوع كارثة أو مشكلة جديدة في مصر، إلى درجة أن بعضهم بات يخشى أن يأتي الغد خوفاً من أن يحمل كارثة جديدة. يحدث هذا بينما يتعاطى النظام العسكري الحالي بقدر عالٍ من الاستخفاف والرعونة في التعاطي مع هذه الأزمات والكوارث، ولا يتوقف إعلامه ومؤيدوه عن ترويج خزعبلات وترهات "المؤامرات" الخارجية على مصر، كما حدث، أخيراً، مع البيان الذي أصدره الاتحاد الأوروبي، تعليقاً على حادثة مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني الذي تم اختطافه وتعذيبه وقتله وإلقاؤه على الطريق في حالةٍ بائسة، وقد دان البيان هذا الفعل البشع، ووجّه انتقادات لاذعة للحكومة المصرية على ما حدث، مطالباً حكومات الاتحاد الأوروبي بوقف مساعداتها لمصر. يسري ذلك أيضاً على أزماتٍ أخرى، ليس أقلها الأزمة المالية الخانقة التي يمر بها الاقتصاد المصري، وأدت إلى تراجع سعر الجنيه في مقابل الدولار بشكل غير مسبوق خلال أكثر من نصف قرن، وأزمة انحسار مياه النيل، نتيجة بناء سد النهضة الإثيوبي، وأزمة تراجع السياحة، نتيجة فشل السياسات الحكومية في جذب السياح، خصوصاً بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في شرم الشيخ أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي لا يزال الخروج منها لغزاً كبيراً، نظراً للثمن الذي قد تدفعه مصر، نتيجة رعونة الحكم العسكري في التعاطي معها. هذا ناهيك عن الأزمات الأخرى التي قد لا تحظى بالاهتمام الإعلامي، لكنها تؤثر على حياة المواطنين العاديين، مثل الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وانهيار الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والبنية التحتية.
ما يحدث في مصر لا يختلف كثيراً عن تجارب البلدان الأخرى التي رزحت تحت الحكم العسكري، بدءاً من كوبا مروراً بالأرجنتين وتشيلي والبرازيل بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إنْ لم يكن من أكثرها سوءاً وفشلاً وطغيانا. فديكتاتوريات أميركا اللاتينية، على الأقل في تشيلي والأرجنيتن، أنجزت شيئاً في مقابل استيلائها على السلطة، سواء اقتصاديا كما هي الحال في الأولى، أو في ظهور مجتمع مدني مبني على اتحادات العمال والفلاحين وشبكات الحراك الاجتماعي المختلفة، كما هي الحال في الثانية.
ولعل ما يقلل من حجم الوضع الكارثي الراهن في مصر الآن هو حجم السخرية التي يتعاطى بها الشعب مع مشكلاته وكوارثه، والتي عادة ما تمثل مؤشراً مهما على سخونة الأوضاع في قاع المجتمع، وتزايد احتمالات الانفجار المجتمعي والغضب الشعبي، كما كانت هي الحال قبل هزيمة 1967، فهل نحن على وشك أن نشهد ذلك؟!

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".