تنظر قوى سياسية عراقية مختلفة بقلق وتشكيك إلى خطوة الولايات المتحدة المتمثلة بإعادة أرشيف حزب البعث في العراق الذي يمتد منذ فترة الخمسينيات، إلى البلاد. ويتضمن الأرشيف صراع الحزب مع القوميين والشيوعيين ثمّ الإسلاميين بعد تسلمه السلطة في البلاد، وانشقاق جناحي البعث العراقي والسوري وملابسات الخلافات، إضافة إلى قضايا محلية عراقية وأخرى عربية وحتى دولية، وصولاً إلى ما بعد حرب الخليج عام 1991 ولغاية عام 2003. ونقل الجيش الأميركي هذا الأرشيف بعد غزو العراق إلى الولايات المتحدة، مع أرشيف جهازي المخابرات والأمن وديوان الرئاسة، ويبلغ مجموع تلك الوثائق أكثر من 6 ملايين وثيقة، تمت مصادرتها من مقري القيادة القومية والقطرية لحزب البعث ومن مبانٍ حكومية في بغداد، وقد جرت عملية نقلها آنذاك بمعية مؤسسة "الذاكرة" العراقية، التي كان يرأسها حينها رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي ومقرها واشنطن.
وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أخيراً عن عملية نقل الأرشيف، وقالت إنه أعيد إلى بغداد عبر طائرة شحن عسكرية أميركية، بتنسيق مع الجانب العراقي، وبات الآن في مكان وصفته بـ"الآمن، ولكنه غير معروف في العاصمة العراقية". واعتبرت الخطوة بمثابة "بادرة حسن نيّة من الولايات المتحدة تجاه الكاظمي".
الأرشيف بالكامل يضم وثائق سياسية وأخرى ذات طابع أمني
في السياق، قال سياسي مقرب من رئيس الوزراء وشغل مقعداً نيابياً في برلمان عام 2014، لـ"العربي الجديد" طالباً عدم ذكر اسمه، إنّ الأرشيف بالكامل يضم وثائق سياسية وأخرى ذات طابع أمني، كالمتعاونين مع الأمن (المخبرين ووكلاء الأمن)، الذين كانوا يعدون التقارير الحزبية ضمن شبكة أمنية واسعة يشترك فيها حزب البعث العراقي وأجهزة أمنية أخرى مختلفة، وفيها أسماؤهم وتفاصيل المعلومات التي يقدمونها بخط اليد، وكانت تحفظ المهمة منها فقط، إضافة إلى أسماء أعضاء قيادات الفروع والشُعب والفرق وأمناء السر والأعضاء العاملين في حزب البعث، ومحاضر اجتماعات حزبية وأخرى أمنية حساسة. وأضاف السياسي نفسه أنّه لم يتم إلى الآن البت بما سيتم فعله بشأن هذه الوثائق، وما إذا كانت ستسلم لهيئة المساءلة والعدالة، باعتبارها الجهة المسؤولة عن حقبة نظام صدام حسين، أم ستحال للقضاء أو يتم تشكيل لجنة لمراجعة المعلومات التي فيها؟
وتحدث عن وجود خشية من أن تمسّ بعض تلك الوثائق شخصيات سياسية وعشائرية ودينية وإعلامية تتصدر اليوم الواجهة على أنها كانت ضدّ نظام صدام حسين أو مُطارَدة منه، فيما هناك وثائق تتحدث عن أنها كانت تخابر النظام السابق، حتى أن منها من كانت موجودة خارج العراق وتحديداً في سورية وبريطانيا ولبنان والأردن.
واعتبر السياسي نفسه أنّ "الأرشيف من الممكن أن يحدث أزمة سياسية كبيرة وحتى فتنة لوجود ضحايا انتهى بهم المطاف في مقاصل الإعدام بسبب تقارير حزبية أو أمنية كتبت بحقهم، في حين أنّ هناك من كانوا يضعون ساقاً مع النظام وأخرى مع خصومه وهؤلاء أيضاً شريحة موجودة في المشهد السياسي العراقي، لذا التعامل مع الأرشيف سيكون بحذر كبير". وقال إنّ "أغلب القوى السياسية تحاول اليوم أن تفهم ما في الأرشيف وسبب إرساله الآن للعراق"، مضيفاً "الأرشيف على الأرجح تم تصويره وحفظ نسخ إلكترونية منه في الولايات المتحدة قبل إرساله، وتحديداً المهم منه".
من جهته، قال محمود الزجراوي، عضو البرلمان العراقي عن تحالف "سائرون" المدعوم من زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر، لـ"العربي الجديد"، إنّ الولايات المتحدة "لها قصد في توقيت إعادة الأرشيف حالياً، وقد نكتشف علاقة جهات وشخصيات سياسية حالية بالنظام السابق"، مضيفاً أنّ "الأميركيين عندما سلموا الأرشيف للحكومة العراقية كان لهم شرط، وهو إعادة فتح الملف من جديد، خصوصاً أن فتحه سيكون المتضرر منه قوى وشخصيات سياسية شيعية، إذ كان للكثير منها علاقات مع النظام السابق، وحالياً تحظى بمناصب ونفوذ في الدولة العراقية".
هناك جهات وشخصيات سياسية عراقية، ستستغلّ أرشيف البعث لأغراض انتخابية
وأضاف الزجراوي أنّ "هناك جهات وشخصيات سياسية عراقية، ستستغلّ أرشيف البعث لأغراض انتخابية، خصوصاً مع قرب موعد الانتخابات المبكرة في يونيو/حزيران المقبل، فهذا الملف سيكون أداة لغرض التسقيط والتشهير، وحتى تأجيج الشارع العراقي من قبل جهات سياسية ضدّ جهات منافسة لها في الانتخابات المقبلة".
أما محافظ الموصل الأسبق القيادي في "جبهة الإنقاذ"، أثيل النجيفي، فاعتبر أنّ "إعادة الأرشيف مهم للغاية لمعرفة تاريخنا الحقيقي، وكي لا تبقى الحقائق رهن ما يصوره البعض"، مطالباً بأن يعرض الأرشيف كاملاً على الشعب العراقي وأن يكون الجميع قادراً على معرفة ما فيه والاطلاع عليه وأن يكون ذلك من خلال أرشفته إلكترونياً.
وأضاف النجيفي في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "إذا كانت هناك شخصيات قد أساءت، فعليها أن تتحمل مسؤولية ما فعلته، إذ نرى الآن أنّ هناك تعاملاً انتقائياً مع هذا الموضوع وفي ما يتعلق بالحقبة السابقة، فهناك شخصيات أساءت لكنها حصلت على مناصب كبيرة ومهمة، وهناك شخصيات لم ترتكب شيئاً لكنها اتهمت بالباطل". وحذر النجيفي في الوقت نفسه من أنّ الأرشيف "ستستغله جهات سياسية ضدّ جهات وشخصيات أخرى خصوصاً مع قرب الانتخابات المبكرة".
من جهته، اعتبر القيادي في "تحالف القوى العراقية" النائب رعد الدهلكي، في حديث مع "العربي الجديد"، عودة أرشيف حزب البعث بأنها "بداية مرحلة جديدة سيكشف فيها المستور، وستُكشف حقائق بعض الذين يدعون الجهاد ومعارضة النظام السابق"، مرجحاً أن يشكل الكشف عنه "صدمة للكثير من العراقيين لا سيما عند تعرية حقيقة بعض الجهات والشخصيات الحالية وكيفية تغيير توجهاتها من أجل الحصول على مكاسب ومناصب".
إعادة الأرشيف بهذا التوقيت ليست اعتباطية، بل هي مدروسة بعناية
واتفق الدهلكي مع النائب الزجراوي في أن إعادة الأرشيف بهذا التوقيت "ليست اعتباطية، بل هي مدروسة بعناية، خصوصاً أننا أمام مرحلة خطرة جداً، بالنظر إلى ما يمرّ به العراق والمنطقة بصورة عامة"، واصفاً الأرشيف بأنه "الصندوق الأسود العراقي لكشف ما كان مخفي على الشعب، ومن المؤكد أنّ هناك جهات ستحاول استغلاله ضد جهات وشخصيات سياسية لغرض التسقيط أو حتى إبعادها عن المشهد السياسي والانتخابات المبكرة".
بدوره، عبّر الخبير والباحث في الشأن السياسي العراقي نجم القصاب، عن خشيته من أن يستغل الأرشيف سياسياً من قبل أحزاب وكتل سياسية بهدف إسقاط هذا أو ذاك، مضيفاً في تصريح لـ"العربي الجديد" أنّ "الولايات المتحدة سلمت الأرشيف حتى تؤكد أنها غير متشبثة في البقاء على المستوى العسكري أو حتى السياسي في العراق، ولا سيما مع قرب الانتخابات الرئاسية الأميركية، فالرئيس دونالد ترامب يحاول استقطاب الجمهور الذي يرغب في إخراج القوات الأميركية من العراق". ولفت القصاب إلى أنّ "بعض الجهات والشخصيات السياسية العراقية، ستحاول إعادة العراق إلى الطائفية والصراعات السياسية، وهذا مرهون بالمرحلة المقبلة، خصوصاً مع قرب الانتخابات المبكرة"، مشيراً كذلك إلى أنّ "هذا الأرشيف قد يفيد بعض الجهات السياسية ضدّ أخرى".