24 يوليو 2024
إضراب الأطباء في السودان أزمة حكم
تتواصل أزمة الحكم الحادة في السودان، وفي كل مرة تطل بوجهٍ جديد، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، وتكتسب زخما أقوى من السابق. ثمّة هشاشة تغشى كل قطاعات الحكم، وتفتقر قيادة الحكم في السودان الحنكة والقدرة على إيجاد مخرج من المطبات السياسية، وتستسهل الحل الأمني. ومع هذا الضعف العام، باتت تنتشر على كل الجسد السوداني مجموعة من الأزمات التي تلف البلاد، وفي كل الاتجاهات، شرقاً وغرباً وشمالا وجنوباً. جديد تجليات الأزمة التي تشغل الناس هذه الأيام سلسلة من الإضرابات التي ينظمها الأطباء والصيادلة في كل السودان. وهي إضرابات توالت وتواصلت، ربما طوال العام الحالي، توقفت على فتراتٍ متقطعةٍ، ثم ما لبثت أن عادت وبزخم أكبر. والحدث، بلا جدال، غير عادي، تسبقه خلفية العداء المستحكم بين الحكم وفئة الأطباء ونقابتهم، أو قل لجنة التسيير الحالية التي تقود الإضراب. ويسجّل للأطباء في السودان وقفتهم ضد الانقلاب، ورفضهم له في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1989، والذي مثل وقتها أكبر مواجهةٍ نقابيةٍ منظمةٍ، رافضة للانقلاب العسكري. مواجهة لا يزال الحقل الصحي عامة يدفع فاتورتها، بسبب التجاذبات بين الحكومة وفئة الأطباء، وانعدام الثقة المتبادل، وخوف رسمي من هذه الكتلة الأكثر تنظيماً، والتي بقيت واقفة بعد فشل الدولة في تطويعها وتفتيتها، كما جرى مع التكوينات النقابية الأخرى في السودان.
إضراب الأطباء الحالي، ومع طول أمده، بات يشغل الناس، كما تشغلهم الأمراض والتدهور المريع والواضح في الخدمات الصحية. وقد اتخذ اهتمام إشراك الأطباء للمواطنين في همومهم شعارا يقود الأضراب الحالي "عشانك يا مواطن". ظلت المطالب المهنية للأطباء مطروحةً على مائدة التفاوض مع الأطراف الحكومية منذ سنوات، من دون أن يحدث تغيير يذكر في موقف الحكومة. بل بات تجاهل الحكومة المطالب بترقية الخدمات الصحية مدخلاً يعرّض حياة الأطباء للخطر، كما سجلت ذلك حوادث الاعتداء المتكرّرة عليهم. إزاء هذا التردّي، وجد الطبيب نفسه في مواجهةٍ يتعرّض فيها للضرب مرات ومرات، عقب كل عمليةٍ أو حادثةٍ تجلب مصابيها إلى المستشفيات التي تفتقر إلى أبسط المسلتزمات الطبية. وإنْ جعلت أحداث تعرّض الأطباء للضرب، والتخريب الكبير الذي شمل أكثر من مستشفى، والتدهور في الخدمات الصحية، وانعدام بعض الأدوية، وارتفاع كلفة الأدوية، الأزمة بين الأطباء والحكومة تخرج إلى العلن وفي مواجهة مستمرة.
يقف حديث الأرقام إلى جانب الأطباء، إذ لا يتعدّى نصيب الخدمات الصحية من موازنة الدولة نسبة 5%، في مقابل حوالي 80% للأجهزة الأمنية. ويمثل الأطباء أنفسهم صفوة خريجي
المؤسسات التعليمية في البلاد، من حيث المرتبات والمكانة الاجتماعية. ولذا، فإن الرواتب المنخفضة جدا لم تعد تلبي طموحاتهم، وجعلت كثيرين منهم يتجه إلى الخيار المرّ والأخير بالهجرة. وتقول أرقام الدولة الرسمية إن الهجرة بين الأطباء في ازدياد مضطرد، غالبها إلى دول الخليج العربية وأوروبا والولايات المتحدة. ووفقا لأرقام رسمية، يهاجر ثلاثة آلاف طبيب سنويا، 48% منهم من النساء. وهاجر حوالي 9423 طبيبا في عام 2012، مقابل 10032 عام 2008. وإجمالاً، تقر وزارة الصحة بهجرة حوالي 55% من الكوادر الصحية، بمعنى أن غالبية كبيرة من أطباء السودان باتوا يزاولون مهنتهم خارج بلدهم. وكانت إحصاءات سابقة قد أفادت بأن عدد الأطباء الأخصائيين السودانيين في بريطانيا، وبعضها يتحدث عن لندن فقط، يفوق عددهم في كل السودان، كما أن عددهم في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية يفوق عددهم في كل السودان.
ويقول اختصاصي علم الأمراض في جامعة الخرطوم، الدكتور خالد عبد العاطي، "حدثت هجرة مهولة للأطباء من مختلف التخصصات، وتشمل الأطباء العموميين والنواب، ولها عدة أسباب، منها أسباب رئيسية، تتمثل في العائد المادي للعمل الذي لا يكفي مستلزماته الشخصية من وجبات ومواصلات". وتنقل صحيفة الصيحة عن مسؤول قوله إن الجامعات الولائية وحدها فقدت أكثر من 350 أستاذاً في العام 2011، وفقد مستشفى في الخرطوم 106 من كادره المدرب بين عامي 2006 ـ 2011.
توضح هذه المقاربات حجم خطورة الوضع وإهمال الدولة هذه الشريحة المؤثرة تماماً، كما هو الحال إزاء تدهور الخدمات الصحية. وفوق ذلك كله، تمارس السلطات الحكومية تفرقةً واضحةً
وتمييزاً لحساب الأطباء المحسوبين على الحزب الحاكم في توفير فرص التخصص والتدريب في الخارج. وكان وزير الصحة منصفاً، حينما أقر بسوء الخدمات الصحية وتدهورها، وإهمال الوزارة الوجود الشرطي داخل المستشفيات، والذي تسبب بحالات تهجمٍ وتعدٍّ على أطباء، ومارسه رجال الشرطة. ودعا وزير الصحة، بحر إدريس أبو قردة، إلى تسريع الإجراءات المحاسبية للمعتدين على الأطباء، وقال إنه مع الذين يطالبون بالسجن 14 عاماً وتشديد العقوبات على النظاميين. وأقر الوزير، في حديثه الذي نشرته الصحف السودانية، بوجود عيوب لازمت توزيع المعدات الطبية والأدوية على المستشفيات، والتي قدرت قيمتها بمبلغ 7 مليارات و496 مليونا و476 ألفا و65 جنيهاً.
ومن مفارقاتٍ توردها بيانات الأطباء أن الدولة التي تضنّ بالخدمات الطبية، في حدها الأدنى، وفي تناقض صارخ، تتولى بناء وافتتاح مستشفى في جيبوتي، منحة قدرها 25 مليون دولار، ومستشفى آخر في جزر القمر بقيمة خمسة ملايين دولار.
وعلى الرغم من خطورة استمرار اضراب الأطباء، نجد أن الدولة تعاملت مع الحدث بطريقةٍ تؤكد عدم الاهتمام بمواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه تدهور الخدمات الصحية في السودان، والتفتت إلى السلاح المجرّب. فمرة تضع اللوم في التدهور على الحصار الأميركي على السودان، وتارة تطلق يد القوى الأمنية، لتعتقل قياداتٍ عديدة من الأطباء الذين لا يزال بعضهم رهن الاعتقال. وتزيد على ذلك بمنع الصحف ووسائل الإعلام من الخوض في وقائع الإضراب، وبتعليق صدور بعض الصحف التي خاضت في تفاصيل الإضراب وتدهور الوضع الصحي، وتلاحق الصحافيين والسياسيين بالاعتقال. وفيما تتسع دائرة المواجهة بين الدولة والأطباء يكتسب تحرّك الأخيرين تعاطفاً يتزايد من الفئات الشعبية والقوى السياسية على خلفية واقعٍ يشهد مزيداً من التدهور الصحي، يزيده ضراما تدهور صحة الجنيه السوداني أمام الدولار.
إضراب الأطباء الحالي، ومع طول أمده، بات يشغل الناس، كما تشغلهم الأمراض والتدهور المريع والواضح في الخدمات الصحية. وقد اتخذ اهتمام إشراك الأطباء للمواطنين في همومهم شعارا يقود الأضراب الحالي "عشانك يا مواطن". ظلت المطالب المهنية للأطباء مطروحةً على مائدة التفاوض مع الأطراف الحكومية منذ سنوات، من دون أن يحدث تغيير يذكر في موقف الحكومة. بل بات تجاهل الحكومة المطالب بترقية الخدمات الصحية مدخلاً يعرّض حياة الأطباء للخطر، كما سجلت ذلك حوادث الاعتداء المتكرّرة عليهم. إزاء هذا التردّي، وجد الطبيب نفسه في مواجهةٍ يتعرّض فيها للضرب مرات ومرات، عقب كل عمليةٍ أو حادثةٍ تجلب مصابيها إلى المستشفيات التي تفتقر إلى أبسط المسلتزمات الطبية. وإنْ جعلت أحداث تعرّض الأطباء للضرب، والتخريب الكبير الذي شمل أكثر من مستشفى، والتدهور في الخدمات الصحية، وانعدام بعض الأدوية، وارتفاع كلفة الأدوية، الأزمة بين الأطباء والحكومة تخرج إلى العلن وفي مواجهة مستمرة.
يقف حديث الأرقام إلى جانب الأطباء، إذ لا يتعدّى نصيب الخدمات الصحية من موازنة الدولة نسبة 5%، في مقابل حوالي 80% للأجهزة الأمنية. ويمثل الأطباء أنفسهم صفوة خريجي
ويقول اختصاصي علم الأمراض في جامعة الخرطوم، الدكتور خالد عبد العاطي، "حدثت هجرة مهولة للأطباء من مختلف التخصصات، وتشمل الأطباء العموميين والنواب، ولها عدة أسباب، منها أسباب رئيسية، تتمثل في العائد المادي للعمل الذي لا يكفي مستلزماته الشخصية من وجبات ومواصلات". وتنقل صحيفة الصيحة عن مسؤول قوله إن الجامعات الولائية وحدها فقدت أكثر من 350 أستاذاً في العام 2011، وفقد مستشفى في الخرطوم 106 من كادره المدرب بين عامي 2006 ـ 2011.
توضح هذه المقاربات حجم خطورة الوضع وإهمال الدولة هذه الشريحة المؤثرة تماماً، كما هو الحال إزاء تدهور الخدمات الصحية. وفوق ذلك كله، تمارس السلطات الحكومية تفرقةً واضحةً
ومن مفارقاتٍ توردها بيانات الأطباء أن الدولة التي تضنّ بالخدمات الطبية، في حدها الأدنى، وفي تناقض صارخ، تتولى بناء وافتتاح مستشفى في جيبوتي، منحة قدرها 25 مليون دولار، ومستشفى آخر في جزر القمر بقيمة خمسة ملايين دولار.
وعلى الرغم من خطورة استمرار اضراب الأطباء، نجد أن الدولة تعاملت مع الحدث بطريقةٍ تؤكد عدم الاهتمام بمواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه تدهور الخدمات الصحية في السودان، والتفتت إلى السلاح المجرّب. فمرة تضع اللوم في التدهور على الحصار الأميركي على السودان، وتارة تطلق يد القوى الأمنية، لتعتقل قياداتٍ عديدة من الأطباء الذين لا يزال بعضهم رهن الاعتقال. وتزيد على ذلك بمنع الصحف ووسائل الإعلام من الخوض في وقائع الإضراب، وبتعليق صدور بعض الصحف التي خاضت في تفاصيل الإضراب وتدهور الوضع الصحي، وتلاحق الصحافيين والسياسيين بالاعتقال. وفيما تتسع دائرة المواجهة بين الدولة والأطباء يكتسب تحرّك الأخيرين تعاطفاً يتزايد من الفئات الشعبية والقوى السياسية على خلفية واقعٍ يشهد مزيداً من التدهور الصحي، يزيده ضراما تدهور صحة الجنيه السوداني أمام الدولار.