تشعر الطفلة التونسية هدى بن مبارك بالغثيان كلما شاهدت أصناف حلوى وعلكة شعبية تباع في المحلات، إذ "تتذكر آلاماً رهيبة في البطن تطورت إلى إعياء ثم إغماء، بعد تناول قطعة من علكة "الدلفين" في 26 فبراير/شباط الماضي، كانت قد اشترتها من محل بالقرب من مدرستها الإعدادية الواقعة في منطقة السعيدة بسيدي بوزيد وسط غرب تونس، ما تطلب نقلها برفقة صديقاتها إلى قسم الاستعجالي في المستشفى الجهوي، خاصة بعد أن تطورت حالتها وعانت من انقطاع التنفس تطلب المكوث لليلة كاملة إلى حين زوال الخطر عنها وعن 15 حالة أخرى عانت من الأعراض ذاتها بعد تناول العلكة السامة.
تكررت الواقعة في مدن القيروان والقصرين وسوسة وتوزر، إذ عانى 37 طفلا من ذات الأعراض، ما استدعى تحليل العلكة عبر وزارة الصحة التي اكتشفت استعمال الملون الغذائي E110، بكميات كبيرة تجاوزت الحد المنصوص عليه (300 مليغرام في الكيلوغرام)، وفق ما أكده لـ"العربي الجديد" مدير إدارة حفظ صحة الوسط وحماية المحيط بوزارة الصحة، محمد الرابحي.
"العربي الجديد" انطلقت في تحقيقها الاستقصائي، من حادثة سيدي بوزيد التي تكررت في أكثر من محافظة لفتح ملف خطر استعمال الملونات الغذائية على حياة أطفال تونس.
ملونات مباحة تونسياً ومحظورة عالمياً
تدرج قائمة الملونات الصادرة عن الجمعية الفرنسية المستقلة، (مكونة من أطباء وباحثين متخصصين في الدراسات البيولوجية والعلاجية والسريرية لمختلف أنواع السرطان)، مادة (E110 (Jaune-orangé ضمن قائمة الملونات الخطرة التي قد تسبب الأمراض السرطانية، لكن وزارتي الصحة والصناعة، المكلفتين بضبط قائمة الملونات، ترخصان باستعماله حاليا في ظل أن قائمة الملونات صدرت في 30 مايو/أيار 1979 ونشرت في الرائد الرسمي عدد 38 المؤرخ في 8 يونيو/حزيران 1979 بحسب تأكيد رئيسة قسم مخابر حفظ الصحة في المعهد الوطني للتغذية التابع لوزارة الصحة التونسية الدكتورة رنا غيلوفي والتي دعت إلى التعجيل بتحيينها إذ إن القائمة تعتمدها وزراة الصحة لم تتغير من عام 1987.
وتحذر غيلوفي من خطورة الملونات المستخدمة في صناعة الحلوى على الصحة، وخاصة الصناعية ومنها الترترازين E102 الذي يمنح اللون الأصفر، وE123 الذي يمنح اللون الأحمر، وE131، الذي يمنح اللون الأزرق، وبالرغم من منع استعمال تلك الملونات منذ عام 1979 لمخاطرها الصحية المؤكدة، تم العثور على الملون E123 في صنف من الحلوى التي تباع في السوق الموازية إثر قيام مخابر حفظ الصحة بتحاليل على عينات من الحلوى في عام 2014، كما قالت غيلوفي مضيفة: "استعمال نسب مرتفعة من الملونات، وأخرى ممنوعة، يؤدي إلى حصول التسممات وقلة التركيز وكثرة النشاط لدى الأطفال، إذ ثبُت علاقة بعض الملونات مثل E102 بحالات من فرط النشاط واضطرابات التعلم".
ما أفادت به الدكتورة غيلوفي تؤكده دراسة إكلينيكية أنجزها مجموعة من الأطباء التونسيين خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى مارس/آذار 1990، أكدت تسبب الملونات الصناعية بالحساسية والربو والتهاب الأنف والإكزيما إذ تم اختيار عينة تتكون من 83 شخصا من محافظة سوسة وسط تونس وبعد حقنهم بملونات صناعية لوحظ أن ملون E102 من أكثر الأصباغ إثارة للحساسية يليه E127 كما بينت الدراسة تسبب 19 في المائة من مئات الملونات التي تمت تجربتها بالحساسية.
حلوى غير مطابقة للمواصفات
تستخرج الملونات الصناعية من مركبات كيميائية بحسب إفادة الكيميائي والأكاديمي في كلية العلوم ببنزرت، حاتم بلغيث، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن الملونات الصناعية تتسبب في تنشيط الخلايا السرطانية والإصابة المبكرة بالأمراض كالحساسية وضيق التنفس، مبينا أنه يصعب التفطن لعديد التجاوزات، نظرا لضعف آليات الرقابة، وهو ما تخشاه أستاذة فيزيولوجيا التغذية بكلية الطب الدكتورة صوفية شبشوب، مؤكدة لـ"العربي الجديد" أن استهلاك الأطفال للحلوى ذات الألوان الذهبية، أو الفضية، والتي يتم بيعها في عديد المحلات والفضاءات التجارية بحسب ما وثقته معدة التحقيق عبر جولات ميدانية، يهدد حياتهم على المدى البعيد لأن اللونين يستخرجان من المواد الغنية بالمعادن مثل E175 (اللون الذهبي) وE174 (الفضي) وكلاهما مصنوعان من مواد كيميائية تسرّب مواد سامة إلى الكبد، ما يؤدي إلى ظهور الخلايا السرطانية على المدى الطويل، مضيفة أن الملون الذي لا يضر هو المستخرج من النباتات أو الغلال، وهو ما تدعمه قائمة الملونات الصادرة عن الجمعية الفرنسية المستقلة، محذرة من الملونات المغشوشة، إذ وصل الأمر ببعضهم إلى طحن الآجر واستعمال المسحوق ملوناً باعتباره أحمر اللون، وهو ما تؤكده إفادة ثريا التباسي نائبة رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك (غير حكومية)، التي أكدت أن قوارير ملونات صناعية وصلت إلى المنظمة جلبها مستهلكون إذ تباع في الأسواق عشوائيا، مثل بومنديل وبرشلونة ووسط تونس العاصمة، وفي الأسواق الأسبوعية من دون أي بيانات حول المصدر وتاريخ صلاحيتها، ومع ذلك فإن بعض المستهلكين وحتى التجار يقبلون عليها لانخفاض أسعارها التي تصل إلى أقل من نصف دولار للقارورة.
وتنتشر في السوق التونسي حلوى شعبية غير مطابقة للمواصفات القياسية، إذ تكشف نتائج بحث "الحلوى في تونس"، الذي أجرته إدارة حفظ صحة الوسط وحماية المحيط خلال الفترة من سبتمبر/أيلول إلى ديسمبر/كانون الأول 2018، أن 37.07 في المائة من العينة التي شملت 83 صنفا من الحلوى في تونس، غير مطابقة للشروط القياسية، بحسب تأكيد مدير الإدارة الرابحي لـ"العربي الجديد".
وشمل البحث 20 مصنعا للحلوى، موزعة على ثماني محافظات تونسية، والإشكال يكمن في عدم احترام التراكيز في بعض العينات التي سجل فيها تجاوز في كمية الملونات المستخدمة، ويؤكد الرابحي، أن نسبة التراكيز في الملونات المستعملة في 11 عينة، خمسة منها في المهدية، و5 عينات في أريانة، وعينة واحدة في صفاقس، غير مطابقة لشروط حفظ الصحة، وتجاوزت الحد المسموح به ومنها 5 عينات لـ"الدراجي" وهي حلوى تلقى شعبية رواجا في تونس، تم فيها استعمال ملونات تفوق النسب، وهي: (أكثر من مليغرام واحد لكل كيلوغرام من الحلوى بالنسبة للملونات 124 E و 122 E و155 E) و(300 مليغرام في الكيلوغرام بحسب النسب التي تعتمدها المواصفات التونسية وتحديدا في الملونات E110 وE133 وE104.
وتتطابق نتائج بحث إدارة حفظ صحة الوسط، مع نتائج تحليل أجرته معدة التحقيق في المختبر المركزي للتحاليل والتجارب التابع لوزارة الصناعة، على عينة عشوائية من حلوى الدراجي بألوانها الثلاثة "الأحمر والأزرق والأبيض"، إذ بينت وجود الملون E124 وE133.
ولدى عرض نتائج التحاليل على المختصة في الصناعات الغذائية، كوثر بالضياف، التي عملت في عديد المصانع أكدت أن العينة تبرز وجود الملون (E124 Rouge -Cochenille) المصنف باعتباره خطرا والممنوع في أميركا، ورغم ذلك لا يزال معتمدا ضمن المواصفات التونسية في الوقت الذي كان يجب أن يتم التخلي عنه منذ سنوات، مضيفة أن العينة تحتوي أيضا الملون E133 رغم منعه في بعض دول الاتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا، النمسا، بلجيكا، الدنمارك، فرنسا، اليونان، إيطاليا، إسبانيا، السويد، سويسرا.
ويزيد من الخطورة أن المنتج الذي جرى تحليله لا يتضمن أي بيانات عن المصدر (المصنع) وتاريخ الصلاحية والمكونات لغياب أي ملصقات مكتوب عليه تلك الأمور مثل عديد المنتجات التي عاينتها معدة التحقيق في الكثير من المحلات والأكشاك حيث تباع الحلوى بالقطعة وبعضها بالميزان، وهو ما يتطابق مع إفادة منظمة الدفاع عن المستهلك، التي أكدت تلقيها عشرين شكوى تتعلق بحلوى الدراجي في العام الماضي، وتضيف ثريا التباسي: "الأمر متفاقم والمنظمة تدخلت العام الماضي لمنع ترويج صنف من الحلوى يسمى "الجن الأزرق" بسبب خطورته على الصحة لاحتوائه على الملون E131 (الأزرق البراق)".
هل تجري إعادة تقييم للملونات المسموح بها؟
أعلنت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية EFSA عن إعادة تقييم جميع الإضافات الغذائية المسموح باستخدامها في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2020، لأن معظم التقييمات يرجع تاريخها إلى الثمانينيات والتسعينيات، وبعضها حتى في السبعينيات، وفق ما جاء على موقعها الرسمي، مؤكدة أنه من المناسب إعادة تقييم جميع الإضافات المصرح بها ومراجعة الشروط الحالية لاستخدام المواد المضافة وإذا دعت الحاجة إلى إزالة مواد من القائمة، إذ أسفر برنامج إعادة التقييم حتى الآن عن مراجعة استخدام ثلاثة ألوان وهي E 104، وE 110 و E 124، وبالنسبة للملونات المسموح بها وتلك الممنوعة تونسيا تؤكد الدكتورة رنا الغيلوفي أنه ممنوع نشرها للعموم لأن المعيار، أو المواصفة التونسية للمضافات الغذائية (NT 117.01) الموجودة في المعهد الوطني التونسي للتوحيد القياسي الملكية الفكرية INNORPI، التابع لوزارة الصناعة، علامة مسجلة ويتم بيعها للصناعيين ممن يحتاجونها في عملهم.
وتكشف الدكتورة غيلوفي أن 15 نوعاً من الملونات ممنوعة في تونس وأوروبا منها (E 123 وE 127)، تم استعمالها في صناعة الحلوى التي يتم تسويقها في الأسواق الموازية وبعض المحلات التونسية، بحسب دراسة "البحث عن الملونات في الحلوى بتونس"، التي أجرتها خلال عامي 2014 و2015 على 50 صنفا من الحلوى، 39 منها محلية و11 صنفاً مستورداً، كما أن 80% من حلوى "الدراجي" احتوت على ملونات ممنوعة.
وبينت هذه الدراسة التي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، أن 17.94 في المائة من العينات المحلية، تحتوي ملونات ممنوعة في حين أن عينتين فقط من 39 استعملت فيها ملونات طبيعية، علما أن 30.76 في المائة من إجمالي العينات التي شملها البحث غير مطابقة للمواصفات التونسية، ما يطرح مشاكل عدة في ظل قدم قائمة الملونات والمضافات التي يتم اعتمادها في تصنيع الحلوى والتي كان من المفروض تحديثها كل عشر سنوات على الأقل، لأن البحوث تتطور، ويتم التخلي عن بعض الملونات واستبدالها بأخرى صحية، إذ تحدد كل دولة المواصفات الخاصة بها بحسب الاستهلاك والمخاطر، مؤكدة أن وزارة الصحة، تسعى قريبا إلى للتخلي عن الملون E120، المحظور في أوروبا، والذي يستعمل في صناعة الحلوى بتونس.
تحولات في الرقابة
بلغت الكميات المحجوزة من علكة الدلفين حتى منذ بداية العام وحتى نهاية مارس/آذار الماضي 18 طنا، وفق تأكيد مدير إدارة الرقابة والجودة بوزارة التجارة كمال بوحديدة، مؤكدا أن الفرق المشتركة من وزارات التجارة والصحة والداخلية تواصل عمليات الرقابة.
وكثفت فرق المراقبة عملها على وحدات صنع الحلوى بعد تسجيل التسممات بعلكة الدلفين، بحسب بوحديدة، الذي أشار إلى حجز تسعة أطنان من المواد الأولية غير صالحة الاستعمال، أو تجاوزت تاريخ الصلاحية منها سكريات وملونات خلال ذات الفترة.
وحجزت وزارة التجارة التونسية 9.5 أطنان من الحلوى غير صالحة للاستهلاك إلى جانب طُنَّين من المواد الأولية الفاسدة، وفق ما أكده بوحديدة لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن الرقابة على الحلوى لم تكن مكثفة، بل كانت تتم بصفة موسمية وفي المناسبات، ولكن إثر تسجيل حالات تسمم بعلكة الدلفين تكثفت الحملات على مصانع الحلوى.
وينص الفصل الثاني والثلاثون في الباب الثاني من قانون حماية المستهلك رقم117 لسنة 1992على أنه "يعاقب على كل المخالفات المبينة بالفصول الثالث والرابع والسادس والسابع والتاسع عشر ومن المخالفات (المنتوجات المشبوه في كونها غير صالحة للاستهلاك أو فاسدة أو سامة، والمنتوجات المشتبه في كونها غير مطابقة للمواصفات، أو قد تعرض صحة المستهلكين وسلامتهم للخطر) بخطية مالية تتراوح بين ألف و20 ألف دينار (بين 500 دولار و10 آلاف دولار)، وبالسجن لمدة تتراوح بين ستة عشر يوما وثلاثة أشهر، أو بإحدى العقوبتين فقط".
ونصّ الفصل الثالث من القانون ذاته على أنه "يتعين أن يتوفر في المنتوجات ما يضمن تحقيق الغاية المشروعة، أو المرجوة منها وعدم إلحاق ضرر بالمصالح المادية للأشخاص، أو بصحتهم عند الاستعمال العادي، وتحجر أو تخضع إلى تراتيب خاصة المنتوجات التي لا تتوفر فيها المستلزمات العامة لتحقيق السلامة"، كما نص الفصل الرابع على أنه "منذ عرض البيع للمستهلك يجب أن تكون المنتوجات مطابقة للخصوصيات القانونية والترتيبية المتعلقة بها، ويتعين على أول عارض لمنتوج في السوق أن يتثبت من مطابقته الخصائص القانونية المتعلقة به والجاري بها العمل". ولكن مصادر التحقيق، أجمعوا على أن هذه العقوبات غير كافية، ويجب أن تتم مراجعتها مثل قائمة الملونات لتكون أكثر صرامة، ولا يتم الاكتفاء بغرامات مالية، أو الإغلاق، لوقف التلاعب بصحة الأطفال وحياتهم.