إصلاحهم الاقتصادي يعمق الأزمة لا يحلها

27 نوفمبر 2016
سوق في مصر (سانتياغو أوركيخو زامورا/Getty)
+ الخط -
اتخذت الحكومة المصرية سلسلة من القرارات مؤخراً كتحرير سعر صرف الدولار وزيادة الفائدة على الإيداع، وكذلك قرار رفع سعر المحروقات، تأتي تلك الخطوات تحت مسمى الإصلاح الاقتصادي.

ويمكننا هنا تناول بعض آثارها على شرائح المجتمع المصري وإيضاح إذا ما كانت تلك القرارات تعد فعلاً إصلاحاً اقتصادياً يعالج الأزمة الاقتصادية، أم حلولا مؤقتة ارتبطت بشروط الاستدانة من صندوق النقد الدولي، لا تحل الأزمة الاقتصادية بل تعمق الأزمة مستقبلا.

تضمن برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادي الذي بدأ فعليا منذ عام 2014 ودعمته موازنة الدولة الأخيرة التي مررها البرلمان عدة بنود، أبرزها تقليل عجز الموازنة العامة للدولة عبر إجراءات تستهدف خفض الإنفاق العام وزيادة الإيرادات. 

كذلك شمل البرنامج رفع سعر الخدمات وأسعار الطاقة بمشتقاتها (السولار والغاز والكهرباء) وتطبيق سياسات نقدية كتحرير سعر الصرف، أي تخفيض قيمة العملة بهدف جذب الاستثمارات والسياحة وتشجيع التصدير، وهو ما يندرج تحت ما سمته الدولة إصلاحا نقديا.

أما مسألة زيادة الموارد فقد تقلصت رؤية الحكومة فيها على استنزاف المواطنين، ففرضت ضريبة القيمة المضافة المقدرة 13% على السلع، وكذلك رفعت رسوم بعض الخدمات وخفض الدعم الموجة للخدمات والسلع تحت مسمى ترشيد الإنفاق، وهو ما ينبئ مستقبلا بإلغاء كامل للدعم.

لم يكتف بند زيادة الإيرادات عند هذا الحد، لكن عرضت الحكومة في أغسطس/آب الماضي بعض الأصول من أراضٍ وشركات وبنوك للبيع في عودة واضحة لسياسات الخصخصة. هدفت تلك القرارات الخاصة بالسياسات المالية أو المتعلقة بالتقشف إلى خفض نسبة عجز الموازنة أي الفارق بين الناتج المحلي الإجمالي والمصروفات، وبدلاً من التفكير في زيادة الناتج المحلي من الاستثمار انصب الحل في كيف نوفر إيرادات في شكل ضرائب أو زيادة في الأسعار أو بيع للأصول.

قبل تحرير سعر الصرف ارتفع الدولار بالسوق السوداء إلى 18 جنيهاً، فاتخذت الحكومة قرارها بتخفيض العملة للحد من المضاربة، وزف الخبرَ مسؤولون بالبنك المركزي، معلنين أن الشعب كله يرحب بقرار تحرير سعر الصرف، وروجت أغلب الصحف والقنوات للقرار بوصفه سيوقف المضاربة على الدولار.


لكن وبعد مرور أسبوعين قارب سعر الدولار في البنوك 18 جنيهاً، لكن أزمة التمويل وتوفير نقد أجنبي للاستيراد ما زالت قائمة، وسيظل مرشحا للزيادة طالما بقيت أسباب ذلك مستمرة.
هذا المختبر العملي يوضح كذب تصريحات أساطين المال والبورصجية والحكومة القائل إن تعويم الجنيه سيضرب السوق السوداء أو يحل أزمة عجز الموازنة.

ولأن الأزمة الاقتصادية هيكلية ومرتبطة بطبيعة الاقتصاد غير المنتج وسياسات الدولة التي لا تدعم الإنتاج الحقيقي فإن الأزمة ستستمر، فلا يمكن معالجة عرض لمرض بمسكنات وترك الأسباب الحقيقية للأزمة.

أما الحديث عن المضاربة على سعر الدولار فإنه مجرد دعاية تنكر أبسط أسباب نشأة المضاربة على أي سلعة وتتجاهل أسباب تراجع مصادر النقد الأجنبي، وانخفاض الاحتياطي النقدي الذي قامت الحكومة بزيادته 6 مليارات دولار عبر قروض ثنائية من دول الخليج ومجموعة السبع وغيرها كشرط لصرف الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي المقدر بـ 12 مليار دولار.

بهذا المنهج الذي يعالج العرض "أزمة الدولار" ولا يعالج المرض وهو أزمة الاقتصاد المصري تدار مصر بمنطق "احيينى النهارادة وموتنى بكرة"، ولا يهم أن ترتفع أسعار السلع أو تزيد المديونية أو تحدث أزمة أكبر مستقبلا في تجاهل لكل الحلول الوطنية التي طرحت من قبل.

القرارات الأخيرة ستؤثر على أغلب شرائح المجتمع ككل ولن تقتصر على الشرائح الفقيرة، بل ستطاول بعض المنتجين.

وستؤدي القرارات في جانب منها إلى ركود تضخمي، مما سيوثر على حركة السوق والإنتاج في المدى البعيد، الأمر الذي يعنى أننا أمام احتمالات تسريح عدد غير قليل من العاملين بأجر.
أما على المدى القريب فسيتأثر كل المستهلكين من القرارات الأخيرة، كذلك ستؤثر قرارات رفع أسعار الطاقة وتخفيض الجنيه على مختلف القطاعات الإنتاجية.

قطاع الصناعات الغذائية كمثال سيشهد أزمة ترتبط برفع تكلفة الإنتاج من جانب ورفع فاتورة الاستيراد من جانب آخر، فزيادة تكلفة مستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي وزيادة سعر المحروقات سيضاعف أسعار السلع، وخصوصا أن مصر تعتمد على الاستيراد لتغطى العديد من احتياجاتها.

وسيرفع قرار تعويم الجنيه فوائد الدين العام، مما سيخلق خللا في الموازنة العامة سيضغط حتما على ما يصرف منها على الخدمات.

وإذا أضفنا زيادة سعر المواد البترولية وتأثيره على تكلفة الإنتاج والنقل سندرك أننا أمام موجة كبيرة من الغلاء ستهب خلال شهر على الأكثر، فإنتاج لحوم الدواجن على سبيل المثال ستزيد تكلفته نظرا لزيادة أسعار الغاز الذي يستخدم في تدفئة المزارع شتاء، إضافة إلى زيادة تكلفة النقل.


أما قطاع الزراعة فسيتأثر أيضا بارتفاع سعر السولار المستخدم في الري، إضافة إلى رفع سعر الأسمدة (سبق وأن زاد في عام 2014) كأثر لارتفاع سعر الغاز الطبيعي أحد مكونات التصنيع سيزيد من تكلفة الإنتاج الزراعي، ناهيك عن باقي أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي المستوردة.

إننا أمام احتمالات زيادة أسعار الغذاء تجعل حصول نسبة غير قليلة من المصرين على قوتهم أمراً غير يسير.

وكذلك ستتأثر قطاعات البناء والتشييد من زيادات الأسعار الأخيرة، سواء مواد البناء التي يتم استيرادها أو المنتجة محليا، مما سيؤثر على نشاط القطاع عموما من حيث حركة البيع والشراء أو كثافة العمالة.

هناك نتائج مباشرة لقرار تخفيض الجنيه، فخلال ساعات تقلصت أموال المودعين في البنوك إلى ما يقارب النصف، وانخفضت القوة الشرائية للجنيه، ليصبح ما يتقاضاه العاملون من أجور لا يكفي مصروفاتهم المعتادة مستقبلا.

وسيزداد التضخم حتما، ولن تستطيع الحكومة التحكم في نسبته لأسباب عدة منها أن مصر تعتمد في سد احتياجات السوق على الاستيراد وأن شبكات الاحتكار تحظى بسلطة لا تمسها الدولة ولا تقترب منها رغم وجود قانون لمنع الممارسات الاحتكارية، فالمحتكرين جزء من الحلف الاجتماعي الحاكم، والذي رحب بقرارات تحرير الصرف واعتبرها قرارات عبور تاريخي وضرورة ملحة ودواء مر إلى أخر الاكلشهات التي تزيف الوعي وتحاول تبرير آثار القرارات المؤلمة.

ولا خجل يلمح حين يخرج كبار رجال الأعمال مطالبين الشعب بالتحمل بينما هم بين ليلة وضحاها زادت ثرواتهم المتراكمة بالدولار.

سيزداد السوق فوضى لأن مصر بحكم إيمانها بسلطة وقدسية حرية السوق ورجال الأعمال لا تضع في هذا الظرف الصعب حدودا للربحية، وتترك السوق تتحكم فيه مجموعات محدودة من المحتكرين رغم أن الدول التي تطبق حرية السوق تضح حدود للربحية وتفرض ضرائب تصاعدية على الأرباح الرأسمالية تصل إلى 35% في بعض الدول.

الغضب تحت الرماد وربما ينفجر نتاج تعمق الأزمات، ونقص قدرة الدولة على توفير بعض السلع واحتمالات ارتفاع أعداد المعطلين عن العمل، هذا ما يعرفه الجميع حتى من هم في السلطة، لن تستطيع الطبقات الأكثر فقراً (20 مليون مصري) تحمل نتاج هذه القرارات التي يصفها النظام بالعلاج المر، بينما تقتصر فحسب على المرار ولا تمثل حلولا لأزمة الاقتصاد الذي يحتاج إلى إعادة بناء، وتحويله إلى اقتصاد منتج يتخلص من سماسرة المال والمحتكرين.

المساهمون