إشارات "العدل والإحسان" المغربية

16 ديسمبر 2015

الأمين العام ل "العدل والإحسان" محمد عبادي (العربي الجديد)

+ الخط -
تُمارس السياسة في المغرب بالإشارة، وليست هذه بدعة مستحدثة، ولا اكتشافاً جديداً. فقد دأب الفاعلون السياسيون في المغرب على تبادل الإشارات المحملة بالرموز والمعاني. وتاريخ المغرب السياسي الحديث غني بـ "الإشارات" السياسية التي كانت وراء صنع أحداثٍ، أو خلق قطيعات أثرت في سيرورة الحركة التاريخية لتطور النسق السياسي في المغرب، بما لذلك من تأثير على الدولة والمجتمع.
وظلت الإشارات ذات الطبيعة السياسية حاضرةً، حتى بين الخصوم، أو عندما تحدث القطيعة بين الحلفاء والأصدقاء، فهي رسائل "مشفرة"، يتبادلها السياسيون، حتى الذين خاصمت بينهم المواقف، أو تنازعوا على الأفكار، أو فرقت بينهم السبل والمذاهب.
وفي الذكرى الثالثة لوفاة مؤسسها ومرشدها، عبد السلام ياسين، اختارت جماعة العدل والإحسان، وهي أكبر جماعة إسلامية معارضة في المغرب، أن توجه عدة إشارات، هي رسائل مرموزة إلى "من يهمهم الأمر"، وهو التعبير السائد في أدبيات الخطاب السياسي في المغرب، والذي يفاد منه التعميم والتخصيص في آن، فهو قد يخص عامة الناس، كما قد يتوجه إلى الخاصة منهم ولأولي الأمر، حسب التعبير التراثي، أو أصحاب القرار، حسب التعبير العصري المعمول به، عند الإشارة إلى المسؤولين.
ولعل لغة "الإشارة" هي الأقرب إلى توصيف وتحليل خطاب جماعةٍ، مثل العدل والإحسان، ظلت منغلقة على نفسها سنوات عديدة بسبب الحصار السياسي والإعلامي والأمني المضروب عليها من السلطة، وأيضاً بسبب تأثير الخلفية الثقافية الصوفية لمؤسسها، وهي ثقافة تميل إلى الزهد والستر والاستعانة بالكتمان على قضاء الحاجة.
ويمكن اختزال تاريخ هذه الجماعة السياسي في عدة "إشارات" قوية، رسمت مسارها السياسي، بدأت برسالة مؤسسها، عبد السلام ياسين، إلى الملك الراحل الحسن الثاني منتصف سبعينيات القرن الماضي، وحملت عنواناً منذراً "الإسلام والطوفان"، وأدت إلى القطيعة بين الملك الراحل ومؤسس الجماعة الذي عاش محاصراً في بيته حتى وفاة خصمه، الملك الراحل. وجاءت الإشارة السياسية الكبيرة الثانية، أيضاً، رسالة وجهها مؤسس الجماعة، بعد أن رفع عنه الحصار إلى الملك محمد السادس، تحت عنوان "إلى من يهمه الأمر"، يدعوه فيها إلى "توبة عمرية" للقطيعة مع ماضي والده، وبناء مغرب جديد، على الأسس التي تدعو إليها الجماعة، وقد أدت تلك الرسالة، أيضاً، إلى "سوء فهم كبير" بين الجماعة والسلطة القائمة في المغرب، لم تمّحِ آثاره، إن لم تكن قد تعمقت وتجذرّت.
أما الإشارة السياسية الأخرى الكبيرة للجماعة فعبرت عنها بانخراطها بدون شروط في الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب عام 2011 بتأثير من رياح الربيع العربي، وانسحابها منه، بدون تقديم أية مبررات في حينه.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات على وفاة مؤسسها، وبعد خمس سنوات على الحراك الشعبي الذي
كانت الجماعة أحد أعمدته الفقرية، عادت لترسل "إشارات" جديدة، هي خلاصة تأملاتها في مسارات ومآل التحولات التي ما زالت تعصف بالمنطقة، واستنتاج لاستقراء تجارب حركات الإسلام السياسي التي تتقاطع معها في الأفكار والمرجعيات، وتحليل للوضع الراهن في المغرب، وفي محيطه الإقليمي والدولي. تمثلت أولى هذه الإشارات في فتح بيت "الجماعة" لجميع أشكال الطيف السياسي اليساري والديمقراطي المغربي، وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن قناعاتهم الإيديولوجية التي تختلف، بل وتتناقض، مع قناعاتها داخل بيتها وأمام ضيوفها وبين أهلها وأنصارها. وتم التعبير عن هذه الإشارة في دعوةٍ صريحةٍ، من أمينها العام محمد عبادي، الذي حذر من حدة "العنف اللفظي" الذي قد يتحول إلى "عنف مادي" بين الفرقاء السياسيين، ودعوته إلى ما وصفه بـ "الخطاب الإنساني"، لمواجهة خطر التطرف والإرهاب.
وفي هذا إشارة إلى استيعاب الجماعة الأسباب التي أدت إلى انتكاس تجارب الإسلام السياسي في البلدان التي عرفت ثورات شعبية، وأدى التصادم بين الإسلاميين واليساريين داخلها إلى تفرقة الصفوف التي اخترقتها التيارات المضادة للثورات، فضربت الإسلاميين باليساريين، لتتيح المجال للاستبداد، ليعود من النافذة، بعد أن طردته الشعوب من الباب.
تمثلت الإشارة الثانية في دعوة جماعة العدل والإحسان الإسلام السياسي، في الفترة الحالية، إلى العودة مجدداً إلى الاهتمام بالدعوة، والابتعاد مرحلياً عن السياسة التي قد تستنفد رصيده ورأسماله الذي ظل يبنيه عقوداً، من دون أن يعني ذلك تخليه عن مطالبه في التغيير. وقد عبر عن هذه الدعوة محمد الحمداوي، عضو مكتب إرشاد الجماعة، في مداخلةٍ ألقيت بمناسبة الذكرى الثالثة لغياب مؤسسها، وجاءت فيها دعوة صريحة بالعودة إلى البناء الداخلي، من خلال الدعوة قد يستغرق عقداً للإعداد والاستعداد للتغيير الذي ما زالت كل شروطه ومسبباته قائمة على أرض الواقع، حسب رؤية الجماعة.
الإشارة الثالثة موجهة إلى الغرب للانفتاح على الإسلام السياسي المعتدل ودعمه، وقد حملت هذه الإشارة أيضاً كلمة الحمداوي، وعاتب فيها الغرب على سياسة الكيل بمكيالين، عندما تخاذل عن دعم التحولات الديمقراطية التي عرفتها بعض بلدان الربيع العربي، فقط لأنها حملت إسلاميين إلى السلطة، فيما لم يتوانَ عن دعم التحولات الديمقراطية التي شهدتها دول أوروبا الشرقية. ولعل هذه أول مرة تعبر فيها الجماعة التي ظلت دائماً ترفض الاستقواء بالخارج، وبالغرب خصوصاً، بطريقةٍ ضمنية إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الغرب في تشجيع التحولات الديمقراطية في المنطقة العربية. وفي هذا إشارة ضمنية إلى إسقاط الأفكار السلبية المسبقة التي ظل يختزلها الخطاب الإسلامي، في معاداته الغرب وقيمه.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).