يتنقل الكاتب والباحث السويسري باتريك هايني، في كتابه الجديد الذي استغرق عشر سنين لإتمامه، في بلدان العالم الإسلامي، من تركيا إلى إندونيسيا، مروراً بمصر. ويركز أيضاً على على دراسة أوضاع الجاليات الإسلامية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وفي تجواله وتركيزه يهدف إلى رصد حالة "التديُّن الجديد" التي ارتبطت بنشوء علاقة وثيقة بينها وبين الاقتصاد، منتجة مظاهر مختلفة أبرزها ظاهرة "الدعاة الجدد".
يتناول المؤلف في مقدمة الكتاب، إسلام السوق بعد الربيع العربي، فيؤكد على فشل الإسلام السياسي وعجزه عن طرح بديل فعلي للمجتمع، مقابل تدعيم الأسس الأيديولوجية لـ"التدين الجديد"، خاصة أن نشأته في الأصل تعتبر حالة احتجاج على بعض النماذج الأساسية في الصحوة الإسلامية المعاصرة التي بدأت في سبعينيات القرن العشرين. ويستدل هايني بتجربتي تونس وتركيا، للدلالة على اضطرار الإسلام السياسي إلى الاندماج في المؤسسات القائمة، والمزج بين ليبرالية اقتصادية ونزعة محافظة اجتماعياً. وهو طرح يستند ويتناغم مع أطروحته التي نشرها في وقت سابق مع الباحث الفرنسي أوليفيه روا في كتاب "ما بعد الإسلام السياسي".
يرصد المؤلف أهم التحولات التي جرت في أشكال التدين، عبر ازدياد حركة خروج الشباب من عباءة التنظيمات والحركات الإسلامية التقليدية، واعتناق أطروحات أخرى أشبه بنموذج التنمية البشرية الأميركي، تخلت فيها عن الأفكار الكبرى التي تتبناها التيارات الإسلامية التقليدية، كالخلافة والجهاد، وأسلمة الدولة والمجتمع وتطبيق الشريعة. وهي الظاهرة التي عبّر عنها الدعاة الجدد بوضوح، ومثلوا رموزاً لها، ونجحوا في اجتذاب آلاف الأنصار على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية.
يُعرّف المؤلف "إسلام السوق" قائلاً: "هو ليس حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم، ولا تياراً أيديولوجياً كالسلفية، أو سياسياً كالإسلام السياسي. ولا يمثل مدرسة في الفكر الديني، بل هو في الواقع حالة أو توجّه قادر على التوطّن والتأثير في كل حقائق الإسلام المعاصر".
يحدد الكاتب ركيزتين أساسيتين يقوم عليهما إسلام السوق: الأولى الانفصال التام ونزع القداسة عن الالتزام التنظيمي تجاه الحركات الإسلامية القائمة ـ مع التركيز بشكل خاص على حالة جماعة الإخوان المسلمين ـ والتخلي عن شعاراتها الكبرى، والثانية النزعة الفردانية المعولمة، التي تركز على النجاح الفردي. هذا التحول الكبير يمكن تفسيره بتغلغل الحداثة بشكل كبير في هذا النوع من الخطاب، وعلمنته بشكل تدريجي حتى وصل إلى ما وصل إليه حالياً.
من سمات هذه الظاهرة، التأثر الشديد بالقيم الرأسمالية والاستهلاكية الغربية، عن طريق تبني النموذج الفردي، واعتماد النجاح الشخصي في الحياة وتكوين الثروة الوسيلة الرئيسية لتحقيق السعادة، وهي السمات التي لاحظ المؤلف أنها مشابهة إلى حد كبير لظاهرة الوعظ البروتستانتي.
وقارن الكتاب بين حالتين تمثلان أحد أهم الفوارق بين الحركات الإسلامية وظاهرة التدين الجديد، أهمها الاستقطاب العنيف ـ وإن كان تقليدياً ـ بين الديني والسياسي داخل الحركات الإسلامية، مقابل العلاقة الوثيقة بين الديني والاقتصادي في خطاب الدعاة الجدد ونمط التدين الجديد. وهو ما يفسره الكاتب بحدوث حالة من "البرجزة"، أي تداخل الطبقة البرجوازية مع عملية الأسلمة التقليدية لإنتاج هذا النوع من العلاقة.
البعد عن السياسة مثّل أيضاً أحد الركائز المهمة لإسلام السوق، وهو ينطلق من نظرة براغماتية ـ تتصل بالعلاقة بين الديني والاقتصادي ـ ترى في الصراع السياسي مضيعة للجهد ومصدر تهديد محتمل قد يعيق التقدم والنجاح. وبالتالي يبتعد خطاب إسلام السوق عنه على المستويين النظري والعملي. وكان واضحاً حرص رموز الدعاة الجدد على تأكيد عدم انشغالهم بالمشهد السياسي، وتركيزهم على "تنمية المجتمع"، حتى بعد اندلاع الثورات العربية. لكن قيمة "التنمية" في حد ذاتها، تعرضت لانتقادات حادة في السنوات الأخيرة، بوصفها إحدى منتجات الرأسمالية الاستهلاكية التي تروّج لها الدول الكبرى بهدف السيطرة على اقتصاديات الدول النامية.
كما أورد الكتاب ملاحظة ذكية، وهي أن نظريات الإدارة الحديثة دخلت في البداية كوسيلة لزيادة فاعلية الأداء داخل هياكل الحركة الإسلامية، لكنها ترسخت مع مرور الوقت كسردية كبرى بديلة لمن أصيبوا بالإحباط من أعضاء هذه التنظيمات. وهو الأمر الذي اعتبره الكاتب تحولاً قد يصل إلى إعادة صياغة الإسلام نفسه وفق مفردات جديدة مثل تحقيق الذات، أو ما يسميه الكاتب "لاهوت النجاح".
(كاتب مصري)
يتناول المؤلف في مقدمة الكتاب، إسلام السوق بعد الربيع العربي، فيؤكد على فشل الإسلام السياسي وعجزه عن طرح بديل فعلي للمجتمع، مقابل تدعيم الأسس الأيديولوجية لـ"التدين الجديد"، خاصة أن نشأته في الأصل تعتبر حالة احتجاج على بعض النماذج الأساسية في الصحوة الإسلامية المعاصرة التي بدأت في سبعينيات القرن العشرين. ويستدل هايني بتجربتي تونس وتركيا، للدلالة على اضطرار الإسلام السياسي إلى الاندماج في المؤسسات القائمة، والمزج بين ليبرالية اقتصادية ونزعة محافظة اجتماعياً. وهو طرح يستند ويتناغم مع أطروحته التي نشرها في وقت سابق مع الباحث الفرنسي أوليفيه روا في كتاب "ما بعد الإسلام السياسي".
يرصد المؤلف أهم التحولات التي جرت في أشكال التدين، عبر ازدياد حركة خروج الشباب من عباءة التنظيمات والحركات الإسلامية التقليدية، واعتناق أطروحات أخرى أشبه بنموذج التنمية البشرية الأميركي، تخلت فيها عن الأفكار الكبرى التي تتبناها التيارات الإسلامية التقليدية، كالخلافة والجهاد، وأسلمة الدولة والمجتمع وتطبيق الشريعة. وهي الظاهرة التي عبّر عنها الدعاة الجدد بوضوح، ومثلوا رموزاً لها، ونجحوا في اجتذاب آلاف الأنصار على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية.
يُعرّف المؤلف "إسلام السوق" قائلاً: "هو ليس حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم، ولا تياراً أيديولوجياً كالسلفية، أو سياسياً كالإسلام السياسي. ولا يمثل مدرسة في الفكر الديني، بل هو في الواقع حالة أو توجّه قادر على التوطّن والتأثير في كل حقائق الإسلام المعاصر".
يحدد الكاتب ركيزتين أساسيتين يقوم عليهما إسلام السوق: الأولى الانفصال التام ونزع القداسة عن الالتزام التنظيمي تجاه الحركات الإسلامية القائمة ـ مع التركيز بشكل خاص على حالة جماعة الإخوان المسلمين ـ والتخلي عن شعاراتها الكبرى، والثانية النزعة الفردانية المعولمة، التي تركز على النجاح الفردي. هذا التحول الكبير يمكن تفسيره بتغلغل الحداثة بشكل كبير في هذا النوع من الخطاب، وعلمنته بشكل تدريجي حتى وصل إلى ما وصل إليه حالياً.
من سمات هذه الظاهرة، التأثر الشديد بالقيم الرأسمالية والاستهلاكية الغربية، عن طريق تبني النموذج الفردي، واعتماد النجاح الشخصي في الحياة وتكوين الثروة الوسيلة الرئيسية لتحقيق السعادة، وهي السمات التي لاحظ المؤلف أنها مشابهة إلى حد كبير لظاهرة الوعظ البروتستانتي.
وقارن الكتاب بين حالتين تمثلان أحد أهم الفوارق بين الحركات الإسلامية وظاهرة التدين الجديد، أهمها الاستقطاب العنيف ـ وإن كان تقليدياً ـ بين الديني والسياسي داخل الحركات الإسلامية، مقابل العلاقة الوثيقة بين الديني والاقتصادي في خطاب الدعاة الجدد ونمط التدين الجديد. وهو ما يفسره الكاتب بحدوث حالة من "البرجزة"، أي تداخل الطبقة البرجوازية مع عملية الأسلمة التقليدية لإنتاج هذا النوع من العلاقة.
البعد عن السياسة مثّل أيضاً أحد الركائز المهمة لإسلام السوق، وهو ينطلق من نظرة براغماتية ـ تتصل بالعلاقة بين الديني والاقتصادي ـ ترى في الصراع السياسي مضيعة للجهد ومصدر تهديد محتمل قد يعيق التقدم والنجاح. وبالتالي يبتعد خطاب إسلام السوق عنه على المستويين النظري والعملي. وكان واضحاً حرص رموز الدعاة الجدد على تأكيد عدم انشغالهم بالمشهد السياسي، وتركيزهم على "تنمية المجتمع"، حتى بعد اندلاع الثورات العربية. لكن قيمة "التنمية" في حد ذاتها، تعرضت لانتقادات حادة في السنوات الأخيرة، بوصفها إحدى منتجات الرأسمالية الاستهلاكية التي تروّج لها الدول الكبرى بهدف السيطرة على اقتصاديات الدول النامية.
كما أورد الكتاب ملاحظة ذكية، وهي أن نظريات الإدارة الحديثة دخلت في البداية كوسيلة لزيادة فاعلية الأداء داخل هياكل الحركة الإسلامية، لكنها ترسخت مع مرور الوقت كسردية كبرى بديلة لمن أصيبوا بالإحباط من أعضاء هذه التنظيمات. وهو الأمر الذي اعتبره الكاتب تحولاً قد يصل إلى إعادة صياغة الإسلام نفسه وفق مفردات جديدة مثل تحقيق الذات، أو ما يسميه الكاتب "لاهوت النجاح".
(كاتب مصري)