يحلو للبعض أن يُشبّه مسار إسلاميي حزب "العدالة والتنمية"، الذي يقود الحكومة الحالية في المغرب بما عاشه النبي يوسف الذي ارتقى من البئر، حيث رُمي هناك سراً، إلى القصر حيث باتت له حظوة وسلطة في مصر، في إشارة إلى انتقال إسلاميي المغرب من السرية إلى العلنية، ثم المشاركة في حكم البلاد.
وبدأ إسلاميو "العدالة والتنمية" العمل السياسي في نوع من السرية، كما لاقوا الكثير من الصعوبات والمضايقات الأمنية التي وصلت أحياناً إلى حد التعرض للسجن، قبل أن يختاروا مبكراً الاندماج والانخراط في المؤسسات والمساهمة في الانتخابات لتصل بهم رياح "الربيع العربي" إلى السلطة ويشاركوا القصر الملكي حكم البلاد.
هنا كانت البداية
قصة الإسلاميين "الإصلاحيين"، كما يسميهم عدد من المحللين لتمييزهم عن إسلاميين اختاروا الاستمرار في معارضة النظام السياسي القائم مثل جماعة "العدل والإحسان"، بدأت بفضل القيادي الراحل عبد الكريم الخطيب، الذي يلقب بـ"عرّاب جيش التحرير" في المغرب.
الخطيب، الذي يعدّ الأب الروحي لحزب "العدالة والتنمية" بثوبه الحالي، انضم سنة 1954 إلى التنظيم السرّي لجيش "التحرير المغربي" الذي كان يكافح ضد الاستعمار الفرنسي، ثم خرج الخطيب مباشرة بعد استقلال البلاد عن حزب "الاستقلال" ليؤسس في 1957 حزب "الحركة الشعبية" رفقة المحجوبي أحرضان.
وتعرض الخطيب للاستهداف بسبب رفضه لمظاهر الحزب الوحيد الذي يستبدّ في حكم البلاد، في الفترة التي تلت مباشرة نيل المغرب لاستقلاله، حيث دعا، إلى جانب زعماء آخرين من بينهم الحسن اليوسي ومبارك البكاي، إلى التعددية السياسية ومحاربة الرأي والحزب الوحيد المسيطر على مقدرات البلاد.
وبسبب ما أحدثته دعوة هؤلاء القياديين في أوساط المغاربة من تجاوب وتأثير، لجأت السلطات الأمنية سنة 1957 إلى اعتقال بعض قادة "الحركة الشعبية" من بينهم الخطيب، غير أن اندلاع عصيان مدني جرّاء تلك الاعتقالات أسفر عن إطلاق سراحهم وإصدار مرسوم للحريات العامة بالبلاد.
وشكّل اختلاف المواقف السياسية بين الخطيب وأحرضان من حالة الاستثناء (الطوارئ) في البلاد التي أعلنها الملك الراحل الحسن الثاني، في 7 يونيو/حزيران 1965، فرصة ليدفع الأول في اتجاه تأسيس حزب جديد سمّاه "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" سنة 1967.
أزمة ثم انفراج
دخل المغرب أزمة سياسية حادة في بداية السبعينات من القرن الماضي، ولا سيما بعد محاولات الانقلاب الفاشلة التي تعرض لها الملك الراحل ليُبادر حزب الخطيب حينها إلى تقديم "خارطة طريق" للخروج من الأزمة، منها اعتماد الكتاب (القرآن) والسنة في كل مناحي الحياة، وإنهاء حالة الطوارئ بإجراء انتخابات نزيهة وتعيين حكومة منبثقة من أغلبية برلمانية ثم إصلاح القضاء.
ردت السلطات المغربية آنذاك بتجاهل المذكرة الإصلاحية لحزب الخطيب ومحاولة تهميشه وإقصائه من الحياة السياسية، وكان من مظاهرها تزوير الانتخابات لصالح أحزاب صنعتها الدولة، ليُقرر الخطيب بعدها مقاطعة الانتخابات من دون أن ينسحب من العمل السياسي.
ومرّت السنوات وبدأ يلوح بعض من الإصلاح السياسي الذي فرضته سياقات جيوسياسية عديدة، إذ ظهر نوع من التفاهم بين القصر وبين أحزاب المعارضة التي تقدمت في التسعينات بمذكرة تطالب فيها بإصلاح دستوري يكرّس الديمقراطية، كما اقترح النظام تشكيل حكومة سُمّيت حكومة "التناوب".
وللتجاوب مع هذه المستجدات قام حزب الخطيب بتنظيم مؤتمر استثنائي سنة 1996، وهو الموعد الذي كان مفصلياً في مسار الحركة الإسلامية في المغرب، إذ التحق العديد من الإسلاميين الشباب من حركة "التوحيد والإصلاح" بالحزب لتُعاد هيكلته ويُدعم توجهه الإسلامي قبل المشاركة في الانتخابات البرلمانية سنة 1997.
واستطاع الحزب بقيادة الخطيب أن يحصل على 14 مقعداً في البرلمان رغم اتهاماته للسلطات بتزوير نتائج الانتخابات، ثم تغير اسم الحزب سنة 1998 ليصبح "العدالة والتنمية" وظل الخطيب زعيماً له إلى حدود 2004، لتوافيه المنية عام 2008 قبل أن يتمكن من رؤية حزبه وهو يفوز في انتخابات 2011 إبان "الربيع العربي" والتي جاءت بأول حكومة للإسلاميين في تاريخ المملكة.
ويقود حزب "العدالة والتنمية" التجربة الحكومية الحالية، التي تم تنصيبها في 3 يناير/ كانون الثاني 2012 بعد إجراء استفتاء على دستور جديد، ويرأسها الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، وتضم 11 وزيراً إسلامياً يشرفون على قطاعات أساسية هي العدل والميزانية والنقل والأسرة والمرأة والتعليم العالي.
انتقال ديمقراطي
يعتبر القيادي في حزب "العدالة والتنمية"، عبد العزيز أفتاتي، أن وصول إسلاميي "العدالة والتنمية" إلى تسيير شؤون الحكم في المغرب يعدّ بمثابة انتقال ديمقراطي ثالث تعيشه المملكة في تاريخها السياسي المعاصر، بعد فشل تجربتي حكومة عبد الله إبراهيم في 1958، وعبد الرحمن اليوسفي، في التسعينات من القرن الماضي.
ويمتدح أفتاتي الحراك العربي الذي شهده المغرب أيضاً بطريقته الخاصة، عن طريق حركة 20 فبراير، إذ اختصرت الطريق نحو تحقيق فوز تاريخي في الانتخابات التشريعية 2011، توّج بعدها بتنصيب أول حكومة يقودها حزب إسلامي متمثلاً في "العدالة والتنمية".
ويلفت القيادي الإسلامي إلى أن "العدالة والتنمية" لا يمثّل كل التيار الإصلاحي في البلاد، فهناك جزء من القوى الإسلامية وحتى اليسارية التي تؤمن بجدوى الإصلاح والعمل السياسي لا تزال تتواجد خارج المؤسسات، داعياً إلى ضرورة احتوائها وانخراطها في المعترك السياسي.
ويمثل "العدالة والتنمية"، في نظر أغلب المحللين، القوى الإسلامية ذات النفَس الإصلاحي التي تعتقد بضرورة المشاركة السياسية من داخل مؤسسات الدولة، من خلال الانخراط في العملية الانتخابية، وتسعى إلى التطور التدريجي في مسار الإدماج السياسي، إلى جانب أحزاب توترت علاقتها بالدولة من قبيل "الحركة من أجل الأمة" و"البديل الحضاري".
تميز التجربة المغربية
من جهته، يوضح المتخصص في الشأن الديني، إدريس الكنبوري، أنه يمكن اعتبار المغرب البلد الوحيد الذي نجحت فيه نوع من المصالحة بين الإسلاميين والنظام السياسي الحاكم مستفيداً من التجربتين التونسية والجزائرية، من خلال السماح لجناح من الإسلاميين من الانخراط في حزب الخطيب، ثم بعدها إتاحة مشاركتهم في اللعبة السياسية.
ويعزو الكنبوري تميز التجربة المغربية إلى طبيعة النظام الملكي الذي يتسم بمشروعية تاريخية في البلاد، لم يتم التشكيك فيها سوى في فترات متقطعة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فضلاً عن لعب الملكية دور الحكم بين مختلف الفاعلين السياسيين في البلاد.
ويشير إلى أن نجاح اندماج جزء من الإسلاميين في العمل السياسي في المغرب من دون حدوث مواجهات أو اصطدامات عنيفة، يعود في الأساس إلى أن نهج التعددية السياسية في البلاد ليس حديث العهد في المغرب فقد انطلق بشكل أو بآخر منذ 1962 بإحداث أول دستور للمملكة.
بدوره، يؤكد الباحث في الحركات الإسلامية، رشيد مقتدر، أن دخول إسلاميي "العدالة والتنمية" في معترك السياسية وقيادة الحكومة يعتبر تجسيداً لمنحى سياسي إصلاحي راهَن على الفعل السياسي السلمي المتدرج من داخل النظام السياسي القائم.
ويوضح أن هذا التيار الإسلامي آمن مبكراً بأن أنجع طريقة للتعبير السياسي تتمثل في إصلاح النظام السياسي القائم من الداخل عن طريق المشاركة في الآليات السياسية المتاحة، وليس اعتماداً على منهج التغيير الجذري والراديكالي الذي عادة ما يتسم بالعنف والعمل السري.