08 نوفمبر 2024
إسلاميو المغرب... حصاد التجربة الحكومية
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
توشك النسخة الثالثة من تجربة الإصلاح الديمقراطي في المغرب على الانتهاء، بداية شهر أكتوبر المقبل، موعد ثاني انتخابات تشريعية، بعد دستور 2011 التي فرضه حراك داخلي قادته حركة 20 فبراير، مدعومة بسياق إقليمي سادت فيه رياح الثورات العربية.
حملت هذه النسخة، وهي سابقةٌ من نوعها في تاريخ المغرب، الإسلاميين المعتدلين إلى الحكومة والتدبير، لا السلطة والحكم؛ بحسب رئيس الحكومة، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، شأن باقي القوى الإسلامية في بلدان الربيع العربي. لكن كل تلك الحكومات سقطت، وبقي مركب إسلاميي المغرب وحده صامداً أمام الضربات، وفي وجه العواصف المتوالية طوال خمس سنوات، جاعلاً هدفاً واحداً نصب عينيه مرفأ الأمان الذي يمنح المغرب وإسلامييه الاستثناء في سياق عربي مضطرب، مهما كانت تكلفة بلوغه ذلك.
بعيداً عن حمّى التحليلات التي سبقت حتى انطلاق الحملة الانتخابية، تستعرض هذه المقالة، وبعين المتابع البراغماتي، حصاد حزب العدالة والتنمية مترئساً هذه التجربة الحكومية، على أكثر من مستوى.
إسقاط فزاعة الإسلاميين، مع انتهاء ولايته على رأس الحكومة الحالية، يُثبت حزب العدالة والتنمية المغربي تهافت سمفونيةٍ طالما ردّدها خصوم الإسلاميين في كل مكان، شرقا وغربا، تفيد بلا ديمقراطيتهم وعدائهم التاريخي للديمقراطية، شكلا ومضمونا.
لا يؤمن هؤلاء بالحريات، وهم ناكرو قيم حقوق الإنسان، بل إن روح الحداثة ومدارج التحضر في خطر كبير، يقول خصومهم السياسيون. فأبجدياتهم، من منظور الخصوم دائماً، تحُث على ممارسة التقية والكتمان، إلى حين التمكّن من السلطة والارتداد على كل شيء، بغية بسط مشروعهم الأصولي الرجعي. بهذا القول، لا يجد المتابع غير المطلع؛ خصوصاً في الغرب، كبير فرق بين هذه الأحزاب من تيارات الإسلام السياسي وتنظيمات داعش والقاعدة وأخواتها، فالأخيرة بدأت في تنزيل مشروع دولتها، سعياً إلى التمدد والانتشار، في حين الأولى، أي أحزاب الإسلام السياسي، ما تزال تنتظر الفرصة المواتية للانقضاض على دول والهيمنة عليها بشرعية الانتخابات والصناديق.
تمكن بنكيران وإخوانه من تفنيد هذه المزاعم، بقيادتهم تحالفاً حكومياً استمر خمس سنوات، منذ
انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، وبرهنوا للخارج، قبل الداخل، أن حزبهم سياسي، مثل باقي الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي المغربي، وأحد أكثر الأحزاب انضباطاً وتقيداً بالمساطر والشكليات الديمقراطية، على المستوى الداخلي.
وبين الفينة والأخرى، لا يتوانى أمينه العام على بث رسائل جريئة أحياناً، آخرها تعليقه الرافض دعوى بعض الأئمة في المساجد، عقب الصلاة على اليهود والنصارى؛ ما يراه أمراً متجاوزا في عصرنا الحالي. وقد صرّح، في وقت سابق، لبعض الساسة الغربيين، إن منطق التعبة ولى، وأن الزمن يفرض التعاون والشراكة، وفق قاعدة رابح/ رابح، مؤكداً بذلك سقوط فزاعة الإسلاميين التي طالما وظفها خصومهم من بني جلدتهم، لتشويه صورتهم هناك.
تزكية شعار "المشاركة لا المغالبة": تمثل تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب حالة استثناء في الوطن العربي، ففي وقت أسقط الانقلاب نظام الإخوان المسلمين في مصر، وما تلاه من تأثير الفراشة لإزاحة إسلاميي تونس. استطاع إسلاميو المغرب أن يثبتوا أن في وسع التجربة الإسلامية أن تنجح، في ظل تعدّدية سياسية تشاركية، لا مغالبة فيها، على الرغم من أن طريقهم إلى الحكم لم يكن مفروشاً بالورود، لكنه كان استثناء فعلاً.
لم تمنع المقاربة الاسترضائية التي نهجها إخوان المغرب من ظهور عقباتٍ في تجربتهم الأولى في التدبير الحكومي الذي عُرف تاريخياً في المغرب بأنه محط توافقات وتسويات بين القصر والأحزاب السياسية. إذ بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر، اتجهت أنظار قوى إقليمية إلى ميْسرَة العالم العربي، بحثاً عن كل السبل لإخراج إسلاميي المغرب من تدبير الشأن العام هناك. كان الأمر فرصةً لحزب العدالة والتنمية الذي أبان عن حنكةٍ ورويةٍ في إدارة أزمة استمرت زهاء شهرين، بعد خروج حزب الاستقلال من التحالف الحكومي، فخضع لكل الإملاءات التي فرضها عليه القصر (التخلي عن وزارة الخارجية)، وحزب التجمع الوطني للأحرار الذي تفاوض معه للالتحاق بالتحالف الحكومي (التنازل عن وزارة المالية). وهذه واقعة رأى فيها بعضهم انبطاحا للإسلاميين أمام قوة المخزن (سلطة الملك) وجبروته، في حين نظر إليها آخرون فرصة لتجديد إثبات حسن النيات لدى رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، أمام الملك، وبقي الخصوم ممن يتهمونه بالسعي نحو الهيمنة وأخونة الدولة، ومنهم من يراه أكبر تهديد لإمارة المؤمنين في المغرب.
بناء ثقافة سياسية جديدة: من حسنات ثورة وسائل التواصل الاجتماعي تيسير سبل التواصل،
وتمكين عموم أفراد المجتمع من الانخراط في النقاش العمومي حول قضايا تهم الشأن العام. معطى كان متاحاً فيما مضى لذوي الحظوة من النخب في القنوات الإعلامية الرسمية، والمقربين من دوائر الأحزاب السياسية في الجرائد الحزبية. وساعدت هذه الفورة الإعلامية "إخوان" المغرب، مدعومين بقواعدهم الحزبية، وبعض القوى الديمقراطية في المغرب على فتح نقاش حول ملفات حارقةٍ عديدة، تجنبتها الحكومات السابقة، خوفاً من الآثار السلبية لأي قرار، بشأن تلك القضايا على شعبيتها ورصيدها الانتخابي.
أعانت هذه الثورة التواصلية، بما أتاحته لإسلاميي المغرب من تواصلٍ مع مختلف الشرائح الاجتماعية، كل بطريقته الخاصة، على اتخاذ قراراتٍ قاسيةٍ، توصف بأنها لا شعبية لتأثيرها المباشر على الطبقات الفقيرة في المجتمع. تأتي في مقدمتها إصلاح صندوق المقاصة برفع الدعم تدريجياً عن المواد التي يساهم فيها الصندوق (المحروقات، السكر...)، وإلغاء ما يعرف بالتوظيف المباشر بإلزامية اجتياز المباريات لولوج الوظيفة العمومية... وآخرها إصلاح أنظمة التقاعد.
ظاهرياً، يبدو الأمر مجرد تدبير عادي، تتولى الحكومة تنزيله، وفق ما يتناسب مع أجندتها وبرنامجها، غير أن إمعان النظر فيه يكشف عن هدم ثقافةٍ سياسيةٍ بالية منذ زمن الاستعمار (الريع، المحسوبية، الكتمان...)، وبدلاً عنها تأسيس ثقافة ووعي جديدين، يتناسبان وتحديات اللحظة التاريخية التي يمر منها المغرب، سعياً إلى بناء تجربته الديمقراطية (الكفاءة، الاستحقاق، الشفافية...).
كيفما كانت نتائج الانتخابات التشريعية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فكفة إسلاميي المغرب راجحة، مقارنة مع بقية إخوانهم في العالم العربي، لقدرتهم على قيادة ائتلافهم الحكومي، صامدين في وجه كل العقبات. بقي فقط أن ننتظر ما ستؤول إليه كفة الاستثناء المغربي في السياق العربي، بمعنى هل سيستمر قوس الإصلاحات بإقرار شرعية الصناديق التي تقرن بين المسؤولية بالمحاسبة؟
حملت هذه النسخة، وهي سابقةٌ من نوعها في تاريخ المغرب، الإسلاميين المعتدلين إلى الحكومة والتدبير، لا السلطة والحكم؛ بحسب رئيس الحكومة، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، شأن باقي القوى الإسلامية في بلدان الربيع العربي. لكن كل تلك الحكومات سقطت، وبقي مركب إسلاميي المغرب وحده صامداً أمام الضربات، وفي وجه العواصف المتوالية طوال خمس سنوات، جاعلاً هدفاً واحداً نصب عينيه مرفأ الأمان الذي يمنح المغرب وإسلامييه الاستثناء في سياق عربي مضطرب، مهما كانت تكلفة بلوغه ذلك.
بعيداً عن حمّى التحليلات التي سبقت حتى انطلاق الحملة الانتخابية، تستعرض هذه المقالة، وبعين المتابع البراغماتي، حصاد حزب العدالة والتنمية مترئساً هذه التجربة الحكومية، على أكثر من مستوى.
إسقاط فزاعة الإسلاميين، مع انتهاء ولايته على رأس الحكومة الحالية، يُثبت حزب العدالة والتنمية المغربي تهافت سمفونيةٍ طالما ردّدها خصوم الإسلاميين في كل مكان، شرقا وغربا، تفيد بلا ديمقراطيتهم وعدائهم التاريخي للديمقراطية، شكلا ومضمونا.
لا يؤمن هؤلاء بالحريات، وهم ناكرو قيم حقوق الإنسان، بل إن روح الحداثة ومدارج التحضر في خطر كبير، يقول خصومهم السياسيون. فأبجدياتهم، من منظور الخصوم دائماً، تحُث على ممارسة التقية والكتمان، إلى حين التمكّن من السلطة والارتداد على كل شيء، بغية بسط مشروعهم الأصولي الرجعي. بهذا القول، لا يجد المتابع غير المطلع؛ خصوصاً في الغرب، كبير فرق بين هذه الأحزاب من تيارات الإسلام السياسي وتنظيمات داعش والقاعدة وأخواتها، فالأخيرة بدأت في تنزيل مشروع دولتها، سعياً إلى التمدد والانتشار، في حين الأولى، أي أحزاب الإسلام السياسي، ما تزال تنتظر الفرصة المواتية للانقضاض على دول والهيمنة عليها بشرعية الانتخابات والصناديق.
تمكن بنكيران وإخوانه من تفنيد هذه المزاعم، بقيادتهم تحالفاً حكومياً استمر خمس سنوات، منذ
وبين الفينة والأخرى، لا يتوانى أمينه العام على بث رسائل جريئة أحياناً، آخرها تعليقه الرافض دعوى بعض الأئمة في المساجد، عقب الصلاة على اليهود والنصارى؛ ما يراه أمراً متجاوزا في عصرنا الحالي. وقد صرّح، في وقت سابق، لبعض الساسة الغربيين، إن منطق التعبة ولى، وأن الزمن يفرض التعاون والشراكة، وفق قاعدة رابح/ رابح، مؤكداً بذلك سقوط فزاعة الإسلاميين التي طالما وظفها خصومهم من بني جلدتهم، لتشويه صورتهم هناك.
تزكية شعار "المشاركة لا المغالبة": تمثل تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب حالة استثناء في الوطن العربي، ففي وقت أسقط الانقلاب نظام الإخوان المسلمين في مصر، وما تلاه من تأثير الفراشة لإزاحة إسلاميي تونس. استطاع إسلاميو المغرب أن يثبتوا أن في وسع التجربة الإسلامية أن تنجح، في ظل تعدّدية سياسية تشاركية، لا مغالبة فيها، على الرغم من أن طريقهم إلى الحكم لم يكن مفروشاً بالورود، لكنه كان استثناء فعلاً.
لم تمنع المقاربة الاسترضائية التي نهجها إخوان المغرب من ظهور عقباتٍ في تجربتهم الأولى في التدبير الحكومي الذي عُرف تاريخياً في المغرب بأنه محط توافقات وتسويات بين القصر والأحزاب السياسية. إذ بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر، اتجهت أنظار قوى إقليمية إلى ميْسرَة العالم العربي، بحثاً عن كل السبل لإخراج إسلاميي المغرب من تدبير الشأن العام هناك. كان الأمر فرصةً لحزب العدالة والتنمية الذي أبان عن حنكةٍ ورويةٍ في إدارة أزمة استمرت زهاء شهرين، بعد خروج حزب الاستقلال من التحالف الحكومي، فخضع لكل الإملاءات التي فرضها عليه القصر (التخلي عن وزارة الخارجية)، وحزب التجمع الوطني للأحرار الذي تفاوض معه للالتحاق بالتحالف الحكومي (التنازل عن وزارة المالية). وهذه واقعة رأى فيها بعضهم انبطاحا للإسلاميين أمام قوة المخزن (سلطة الملك) وجبروته، في حين نظر إليها آخرون فرصة لتجديد إثبات حسن النيات لدى رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، أمام الملك، وبقي الخصوم ممن يتهمونه بالسعي نحو الهيمنة وأخونة الدولة، ومنهم من يراه أكبر تهديد لإمارة المؤمنين في المغرب.
بناء ثقافة سياسية جديدة: من حسنات ثورة وسائل التواصل الاجتماعي تيسير سبل التواصل،
أعانت هذه الثورة التواصلية، بما أتاحته لإسلاميي المغرب من تواصلٍ مع مختلف الشرائح الاجتماعية، كل بطريقته الخاصة، على اتخاذ قراراتٍ قاسيةٍ، توصف بأنها لا شعبية لتأثيرها المباشر على الطبقات الفقيرة في المجتمع. تأتي في مقدمتها إصلاح صندوق المقاصة برفع الدعم تدريجياً عن المواد التي يساهم فيها الصندوق (المحروقات، السكر...)، وإلغاء ما يعرف بالتوظيف المباشر بإلزامية اجتياز المباريات لولوج الوظيفة العمومية... وآخرها إصلاح أنظمة التقاعد.
ظاهرياً، يبدو الأمر مجرد تدبير عادي، تتولى الحكومة تنزيله، وفق ما يتناسب مع أجندتها وبرنامجها، غير أن إمعان النظر فيه يكشف عن هدم ثقافةٍ سياسيةٍ بالية منذ زمن الاستعمار (الريع، المحسوبية، الكتمان...)، وبدلاً عنها تأسيس ثقافة ووعي جديدين، يتناسبان وتحديات اللحظة التاريخية التي يمر منها المغرب، سعياً إلى بناء تجربته الديمقراطية (الكفاءة، الاستحقاق، الشفافية...).
كيفما كانت نتائج الانتخابات التشريعية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فكفة إسلاميي المغرب راجحة، مقارنة مع بقية إخوانهم في العالم العربي، لقدرتهم على قيادة ائتلافهم الحكومي، صامدين في وجه كل العقبات. بقي فقط أن ننتظر ما ستؤول إليه كفة الاستثناء المغربي في السياق العربي، بمعنى هل سيستمر قوس الإصلاحات بإقرار شرعية الصناديق التي تقرن بين المسؤولية بالمحاسبة؟
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024