إسقاط الدولة المصرية القومية الحديثة

17 سبتمبر 2015
إذا كان لديك هذا النموذج فما هو؟ (فرانس برس)
+ الخط -
(لن تجدي طريقة الإصلاح التدريجي مع النظام المصري.. لقد ثبت فشلها، والحل هو هدم مؤسسات الدولة المصرية وبناءها من جديد حتى تتحقق أهداف الثورة)، بمثل هذه الجمل والعبارات يمكن أن تحصل على آلاف "الشير والإعجاب" على "فيسبوك" وصفحات التواصل الاجتماعي، وأن تظهر أمام أصدقائك بمظهر الشاب الثوري الطاهر النقي.


لكني أزعم أنه رغم حاجة مصر إلى تغيير جذري للمؤسسات ولنظام الدولة، إلا أن فكرة هدم الدولة المصرية نفسها مع كونها غير عملية/واقعية في الأساس، إلا أنها أيضا ليست أفضل الحلول المقترحة.

من أسابيع قليلة كتب "يانيس فاروفاكيس" وزير المالية اليوناني المستقيل من الحكومة اليسارية الراديكالية، مقالا بعنوان (كيف أصبحت ماركسيا ضالا؟) ذكر في مقدمته عبارة سأستبدل منها  كلمات "الرأسمالية الأوروبية" بعبارة الدولة المصرية، ثم أكتبها كما هي: (كان هدفي هنا هو توضيح وجهة نظري بخصوص الرأسمالية الأوروبية -الدولة المصرية- البغيضة التي -ورغم كل أمراضها- يجب أن نتجنب انهيارها مهما كانت التكلفة. وهذا الاعتراف الغرض منه إقناع الراديكاليين بأن علينا مهمة متناقضة: أن نوقف السقوط الحر للرأسمالية الأوروبية -الدولة المصرية- حتى نشتري الوقت الذي نحتاجه لتشكيل بديلها).

فمن الناحية النظرية.. يجمع أغلب المصريين على أن مؤسسات الدولة المصرية لم تعد قادرة على مواجهه تحديات العصر، ولا تطوير نفسها بالصورة الكافية لخدمة المواطنين، -بما في ذلك أشد مؤيديها-، لكن بينما يقدم مؤيدوها الحل بإصلاحها من الداخل، يقدم معارضوها الحل في إسقاط مؤسساتها ثم بنائها من جديد، لكن السؤل هنا يظهر للعلن: بناؤها على أي تصميم؟

هل ستهدمها من أجل استبدال الأفراد القائمين على إدارتها فقط؟ أم ستهدمها من أجل بناء نموذج آخر؟ وإذا كان لديك هذا النموذج فما هو؟

في الحقيقة لا يوجد بديل جاهز في حالة هدم الدولة المصرية إلا البديل الموجود في العراق والشام تحت مسمى "الدولة الإسلامية"، فيما عدا ذلك، لا يقدم أحد بديلا مقنعا لشكل الدولة ومؤسساتها وهياكلها وفلسفاتها كبديل لما هو قائم، ورغم أن هناك الكثير من الكتابات الجادة والرصينة في نقد الدولة القومية الحديثة، أو في عدم توافقها مع التصور الإسلامي كما ذكر مثلا وائل الحلاق في كتابه (الدولة المستحيلة)، إلا أنه لا أحد تقريبا حاول البدء في تقديم النموذج البديل أو وضع الأساس النظري والفكري له، وبالتالي فإن إسقاط الدولة المصرية من دون وجود البديل، يعنى مباشرة أنك تعطيها هدية لـ"داعش".

على الجانب الآخر.. فإلى الآن لم يجتمع من تبقى من ثوار يناير على ما يريدون بناءه، رغم أنهم قد اجتمعوا أكثر من مرة على ما يريدون هدمه أو إسقاطه، لقد كانت لثورة يناير مطالب واضحة فيما لا تريده، لكنها اكتفت بالشعارات فيما تريده، وإلى حين أن يكون هناك اتفاق على برنامج واضح أو مشروع سياسي مشترك، فإن مصير أي محاولة للتغير التدريجي أو حتى الجذري من قبل طرف واحد من أطراف يناير بمعزل عن الباقين هو أن يقف باقي الأطراف في موقف المتفرج -وفي هذا إهدار للطاقات- أو في موقف المؤيد للثورة المضادة، كما حدث في 30 يونيو.

هذا من الناحية النظرية.. أما من الجانب العلمي: فهل يمكن فعليا هدم الدولة المصرية الحديثة؟

عليىنا أن نتذكر هنا كيف كانت مؤسسات الدولة في أغلبها ترفض العمل تحت رئيس جاء من خارجها، برغم أنه لم يتعامل معها إلا من خلال سياسة الإصلاح من الداخل والتغيير التدريجي، ثم كيف كانت هذه المؤسسات وعلى رأسها المؤسسة العسكرية هي رأس الحربة في إسقاطه.

قارن أيضا حجم المعارضة السياسية للنظام الحالي -الأحزاب والكيانات السياسية.. الخ- من داخله مع حجم المعارضة من موظفي الدولة ضد قانون الخدمة المدنية، مثلا، لتدرك أن المعارضة الحقيقة للنظام هي من مؤسسات الدولة نفسها، فالنظام المصري الحالي الذي لا يجد أي معارضة سياسية من داخل منظومة 30 يونيو التي بناها يجد الآن مظاهرات كبيرة ودعوة إلى مليونية، وتجمع لنقابات الموظفين والعمال، وحشد شعبي كبير ضد قانون الخدمة المدنية، لأنه أراد تغيير بعض الأمور الخاصة بالموظفين في الدولة، كل هذا يعطي دلالة على قوة هذه الدولة وحجم مؤيديها، بل إن صراعات الأجنحة من داخل النظام التي تظهر على السطح من وقت لآخر، هي دليل آخر على قدرة أطراف كثيرة داخل بنية الدولة على امتلاك أوراق قوة كثيرة تجيد استخدامها متى تريد.. فهل سيظل كل هؤلاء صامتين إذا حاول أحدهم الاقتراب من مؤسسات الدولة من أجل هدمها، إذا كان هذا رد فعلهم في حالة محاولة إصلاحها من الداخل؟

يجب التأكيد هنا أن محاولة استدعاء تجربة الثورة الإيرانية وكيفية تعاملها مع مؤسسات الدولة ثم إسقاط هذه التجربة على مصر غير دقيق، فمصر بدأت فيها الدولة الحديثة قبل إيران بمائة عام تقريبا على يد محمد علي باشا، وتطورت تجربة الدولة من خلال حكم محمد علي وأولاده، ثم بعد "انقلاب يوليو العسكري" 1952م، على مدى زمني يقارب الـ 200 عام، كانت مؤسسات الدولة في أغلب هذه الأوقات مستقرة وفي تطوير مستمر، فلا يجوز مقارنتها بمؤسسات الدولة الإيرانية التى بدأت في أوائل القرن العشرين، ولم تكد تستقر من كثرة المنازعات، فكان سهلا على ثورة أن تأتي في الربع الأخير من القرن نفسه لتهدمها وتنشئ مكانها ما تريد من دون أن تجد مقاومة كبيرة!

فهل من الأجدى أن نبحث عن طريق ثالث يجمع ما بين التغيير الجذري لبنية النظام المصري السياسي الحديث الذي يلبي طموحات المواطنين بصورة عملية وسريعة من دون أن نفقد في الوقت نفسه مزايا قد تكون موجودة في النظام الحالي؟

أليس من الأجدى لنا حاليا البحث عن برنامج مشترك لإعاده بناء الدولة المصرية الحديثة وفق أسس جديدة تكون محل اتفاق من قوى سياسية وشعبية مختلفة، نستخدم في هذا البرنامج مشرط الجراح الذي يزيل الورم، ويبقى على الأنسجة السليمة، بدلا من أن نستخدم معول البناء الذي يهدم الصالح والفاسد؟

(مصر)
المساهمون