أبرز ما ميز المواجهة المحدودة بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي في الهجوم الصاروخي الإيراني والرد الإسرائيلي عليه، ليل الأربعاء الخميس، هو محدودية المواجهة العسكرية، بالرغم مما سبقها من تهويل وتهديدات متبادلة بين الطرفين. لكن على أرض الواقع، في ميدان المعركة، جاء الهجوم الإيراني مطابقاً بشكل لافت للنظر للمقاييس التي فصلتها دولة الاحتلال منذ بدأ الجيش الإسرائيلي، ومن ثم الإعلام الإسرائيلي، يردد مقولة الكشف عن "طبيعة وحجم الرد الإيراني" المرتقب، وأن هذا الرد سيكون صاروخياً وسيطاول في نهاية المطاف مواقع عسكرية في الجولان. ويثير هذا التطابق بين التباهي الإسرائيلي بالكشف، أو "فك رموز" الرد الإيراني المرتقب وحجمه وطبيعته في الأسبوع الأخير، خلافاً للتقديرات الإسرائيلية التي روجت لها الصحف الإسرائيلية ومراكز الأبحاث المختلفة قبل ذلك، تساؤلات لم تغب حتى عن بال محللين في الصحافة الإسرائيلية بعد أن تبينت "ركاكة الرد الإيراني".
فحتى قبل أسبوع كانت محافل التقدير العسكرية والاستراتيجية في تل أبيب ترسم سيناريوهات دبت الرعب، أو يفترض فيها أن تدب الرعب، في قلوب الإسرائيليين لجهة تحقيق كوابيس اندلاع حرب شعواء على الجبهة الشمالية كلها، مع احتمالات امتداد ألسنتها إلى قطاع غزة، ناهيك عن خطر تفعيل أذرع إيران في الخارج لضرب الأهداف الإسرائيلية المختلفة، من سفارات وسياح إسرائيليين وما إلى ذلك. لكن سيناريوهات الرعب، أو نذر الشؤم، تبدلت خلال أقل من شهر، منذ قصف قاعدة "التيفور" في التاسع من إبريل/نيسان الماضي، وانكمشت إلى هجمات صاروخية محدودة على مواقع عسكرية في الجولان. ولعل المهم هنا في أن ضرب الأهداف الإسرائيلية في الجولان فقط من شأنه أن يقي إيران مغبة عمليات إدانة دولية بحجة انتهاك السيادة الإسرائيلية، أو الاعتداء على دولة سيادية من دون سبب مقنع، فالجولان في نهاية المطاف أرض محتلة، ولا أحد يعترف بالقرار الإسرائيلي بفرض القانون الإسرائيلي على الجولان. مع ذلك، وربما بسبب ذلك، وإلى جانب التباهي الإسرائيلي بالتفوق الاستخباراتي أولاً، وبتكريس التفوق الجوي ثانياً، فقد حرصت المستويات السياسية والعسكرية في إسرائيل على عدم الدخول في حالة نشوة تستفز مشاعر إيران أكثر، والتأكيد كما فعل رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على أن المعركة مع إيران لا تزال طويلة. وهذه عملياً هي العبرة الأساسية من دورة المواجهة التي يبدو أنها ستوظف من قبل دولة الاحتلال، لتحسين شروطها ووضعها في ترسيم مستقبل سورية، وترتيب النفوذين الإيراني والروسي في سورية، لكن ليس الوجود العسكري لإيران ما دام يقترب من الحدود مع الجولان.
وقد اعتبر كثير من المراقبين في إسرائيل أن المعركة مع إيران لم تنته، لا سيما في ظل التطابق في وجهات النظر بين المستويين السياسي والعسكري بشأن التداعيات الخطيرة لوجود عسكري إيراني على الأرض السورية على أمن إسرائيل وقدرتها على المناورة الجوية ومواصلة حرية الحركة لطيرانها الحربي، في حال تواجدت مليشيات طائفية وإيرانية من شأنها أن تطلق صواريخ مضادة للطائرات ضد الطيران الحربي الإسرائيلي بما يستنزف قوة إسرائيل العسكرية ويعرقل نشاطها المتواصل، ضمن ما تسميه "بالمعركة بين الحروب" الهادفة لاستنزاف قوة إيران العسكرية عموماً وإضعافها قدر المستطاع. ولعل من اللافت في قراءة الإسرائيليين لجولة التصعيد في الجولان، التساؤلات التي طرحها المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، عندما قال إنه لا يزال غير واضح حتى الآن ما الذي دفع برجل بهذا القدر من الخبرة، مثل قائد "فيلق القدس" الجنرال قاسم سليماني، إلى محاولة تنفيذ خطة عمليات إرهابية غير ناضجة على الإطلاق، وهو يعلم أن إسرائيل ترصد وتراقب "بسبعة أعين"، وفق تعبيره، كل تحركاته وأنها كشفت عملياً وأحبطت عدة محاولات سابقة في الأيام العشرة الأخيرة.
ويمضي هرئيل قائلاً، بما يعزز حالة الحذر الإسرائيلية من "النشوة" من الانتصار في الجولة الأخيرة، إن "فشل سليماني لا يضمن تراجع إيران عن مخططاتها في سورية أو أن تسلم بالعقاب الإسرائيلي فلا تخطط لعمليات أخرى، في جبهات مغايرة بدءاً بأهداف إسرائيلية في الخارج وحتى الحدود مع لبنان". وبنفس الروح الحذرة والمنتظرة لما هو آتٍ، كتب يوآف ليمور في "يسرائيل هيوم" إن إسرائيل حققت نصراً في المعركة الأخيرة، لكن فرص اندلاع حرب قادمة ارتفعت أكثر مما كانت عليه من قَبل "بالرغم من أن أياً من الأطراف ذات الصلة، بدءاً من إسرائيل وإيران مروراً بسورية وحزب الله والولايات المتحدة وروسيا، غير معني بمثل هذه الحرب الآن، وهذا المنطق هو الذي شكل كابحاً لأي تصعيد غير محسوب، وسيبقى كذلك في المستقبل. ومع ذلك أضيفت هذا الأسبوع عدة عوامل من شأنها أن تزيد من فقدان السيطرة على الأوضاع في الشمال". ويشير ليمور إلى الموقف السياسي في إسرائيل، والذي عبر عنه هذا الأسبوع أيضاً رئيس مؤتمر "هرتسليا للمناعة القومية"، الجنرال احتياط عاموس جلعاد، من أن إيران مصممة على تكريس وجود عسكري في سورية، وإسرائيل مصممة على رفض ذلك وهو ما يضع الطرفين على مسار مواجهة حتمية. وبحسب ليمور فإن الوجود الإيراني في سورية، والموقف الإسرائيلي من هذا الوجود، هو نتيجة مباشرة للاتفاق النووي، إذ سمح الاتفاق لإسرائيل وجيشها بحرف وتعديل مسار العمل والاستثمار من موضوع محاربة المشروع النووي الإيراني وتوجيه الطاقات، بما فيها الاستخباراتية والعملياتية، إلى سورية وما يحدث على أرضها من نشاط إيراني مكثف في التأصيل والتأسيس لوجود عسكري مادي وملموس مع تكثيف جهدها لإنقاذ نظام بشار الأسد.
ويقول ليمور إن الإيرانيين تلقوا ضربة قوية ومهمة، إلا أنها لم تكن ضربة قاضية ولا يزال مبكراً الآن التكهن كيف سيكون الرد الإيراني، فالأمر مرتبط أيضاً بالعقوبات الأميركية الجديدة، إذ يبدو هذه المرة أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عاقد العزم على السير في نظام العقوبات ضد الاقتصاد الإيراني والشركات التي ستتعامل مع طهران حتى النهاية. ومع أن ترامب يراهن على أن الحرب الاقتصادية ستدفع الشعب الإيراني للخروج ضد النظام إلا أنه لا يتوقع أن يحدث ذلك قريباً. ويتفق محرر الشؤون العسكرية في القناة العاشرة، ألون بن دافيد، مع الطرح القائل بأن إيران في ردها المحدود كانت حذرة من الدفع باتجاه تدهور الأوضاع، لكن المعركة مع إيران لا زالت طويلة.
ويذهب تسفي برئيل، في "هآرتس"، إلى القول إنه على الرغم من أن "نجاح العملية الإسرائيلية أول من أمس يبدو كهزيمة لإيران، إلا أنه وبفعل الفرق بين العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية وتلك الإيرانية فقد تكون للضربة التي تلقتها إيران تداعيات بعيدة الأثر. ويوضح أن "الموضوع يتعلق من وجهة نظر إسرائيل بصد التمركز العسكري الإيراني في سورية مع بقاء إسرائيل المتحكمة بارتفاع ألسنة اللهب. لكن الأمر يختلف كلياً من وجهة النظر الإيرانية، فسورية ليست مجرد موقع إضافي، وإنما هي جزء من استراتيجية بناء وبسط النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط كله، ومحور صراع بينها وبين السعودية وجبهة إضافية إلى جانب لبنان، في حربها ضد إسرائيل، ومرآة لكون إيران قوة إقليمية وشريكا في الحل في سورية". وسورية من المنظور الإيراني، بحسب برئيل، "هي محور تنافس سياسي واقتصادي شديدين مع كل من تركيا وروسيا على فوائد وعوائد إعادة الإعمار فيها، وبالتالي فإن هذا كله سيلزم النظام الإيراني بإعادة النظر في حساباته وسياسته عبر تورطه في ساحة تهديدات وضعت على عتبة بابه إثر قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي".
وإذا كان هذا غير كافٍ، بحسب برئيل، فإن التعاون الروسي مع إيران لا يلزم الأولى بحماية إيران وقواتها على الأرض السورية، وزيادة على ذلك يبدي الأسد نفسه انحيازاً أكبر لصالح روسيا ووجودها من خلال منحها الامتيازات التجارية في سورية وتفضيلها على إيران. على ضوء كل ما ذكر أعلاه وبالنظر إلى حدود القوة الإيرانية في سورية من جهة، وتداعيات القرار على النقاش الداخلي بين المحافظين وبين الرئيس حسن روحاني، تبدو إيران اليوم، بحسب برئيل، أكثر حذراً، فالخوف من انهيار الاتفاق كلياً يجبر إيران على الاستعداد لتداعياته المحتملة بما في ذلك على علاقاتها التجارية والاقتصادية مع عدد كبير من الدول، ما قد يعرقل ويؤثر على قدرتها بتحمل أعباء مواجهة طويلة ومتواصلة ومبدأ مواصلة اقتصاد المقاومة.