إسرائيل تستثمر الاتفاقيات لصالحها
منذ إنشاء دولة الكيان الصهيوني، في 1948، وهي تعمل على تعزيز شرعيتها وأمنها بعقد الهُدن واتفاقيات السلام مع دول عربية. وكانت أول الهُدن لوقف إطلاق النار بين الدول العربية وإسرائيل تم توقيعها بعد حرب 1948، وهذه الهُدن وقعت مع الدول العربية المجاورة لفلسطين، وهي الأردن ولبنان ومصر وسورية، ويمكن القول إنها أصبحت مُلزِمة ومُقدسة للعرب فقط، لان أياً من الدول العربية لم تخرق هذه الاتفاقيات.
في ظل الضعف العربي، وسكوت العالم، وفشل الأمم المتحدة في حل القضية الفلسطينية، ورداً طبيعياً على الاحتلال، بدأ الفلسطينيون بأعمال المقاومة المسلحة. بعض الدول العربية أيدت هذه المقاومة، ودول لم تعلن صراحة تأييدها أعمال هذه المقاومة، خوفاً من ردود الفعل الإسرائيلية، أو احتراماً لاتفاقيات الهدنة التي وُقعت مع إسرائيل مسبقاَ.
إن الحرب التي خاضها العرب عام 1967، وهاجمت في أثنائها إسرائيل مصر وسورية والأردن، وما نتج عنها من فشل الدول العربية في مجابهة العدو الصهيوني والشعور بالضعف، دفع هذه الدول لإدراك أهمية دعم المقاومة، بهدف استنزاف العدو وإضعافه. لذلك، اتخذت دول عربية قراراً بمساندة المقاومة الفلسطينية المسلحة في أواخر الستينيات. أما حرب 1973، فقد أدت إلى توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وهذا أسهم في أن تنعم إسرائيل بحدود جنوبية آمنة، وحتى اليوم يسري مفعول هذه الاتفاقية، بل ومع قدوم نظام الانقلاب، زاد التمسك بها وتقديسها. وهي التي كانت مقدسة لنظام حسني مبارك الذي لم يغير ولم يطالب بأي تعديل، أو إلغاء أي من بنودها، وهذه المعاهدة تعتبر صك استسلام مصري لإسرائيل، في مقابل مساعدات مالية أميركية، وتعتبر هذه المعاهدة نصراً لإسرائيل، وإنجازاً عظيماً حيد أكبر دولة عربية عن الصراع العربي الإسرائيلي.
وعلى الصعيد السوري، الهدنة مستمرة منذ نهاية حرب 1973، من دون أي خروق، ومن المعروف أن توقيع أي هدنة، يكون الهدف منه وقف الأعمال القتالية بين الأطراف المتنازعة، وليس نهاية الحرب، ويكون لفترة زمنية محدودة. لكن، كما نرى، الدول العربية تحترم هذه الهُدن منذ عقود، والمستفيد الأكبر من هذا الوضع، بالطبع، هو إسرائيل.
الجبهة التي بقيت مشتعلة منذ السبعينيات، هي جبهة الجنوب اللبناني، بحيث استمرت المقاومة الفلسطينية بقصف مستعمرات العدو، حتى الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، وما تلاه من خروج المقاومة الفلسطينية من هذا البلد، ولكن المقاومة استمرت بأياد لبنانية، واحتلت إسرائيل أجزاء من الجنوب اللبناني، بهدف وقف المقاومة، لكنها اضطرت في عام 2000 للانسحاب، تحت ضغط ضربات المقاومة، ومن دون توقيع أي اتفاقيةٍ، أو هدنة معلنة مع لبنان، أو مع حزب الله.
وفي الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على لبنان في عام 2006، وانتهت بعقد هدنة بين حزب الله وإسرائيل، وتم إصدار قرار من الأمم المتحدة ينص على احترام وقف إطلاق النار بين البلدين، وما زال محترماً من الطرفين، على الرغم من خروق إسرائيلية، لم تؤثر على مسار استتباب الهدوء.
لولا مقاومة الشعوب، لبقيت حدود الدول العربية هادئة تماماً، ومن دون إزعاج لهذا العدو، أو تعطيل تنفيذ مخططاته التوسعية. وما نراه، يقول، إن حدود الدول العربية الثلاث، أي الأردن وسورية ومصر، شديدة الهدوء، ولا تسمح هذه الدول لأحد حتى بالاقتراب من هذه الحدود، وتحارب إدخال أي قطعة سلاح واحدة للمقاومة الفلسطينية، في غزة أو الضفة الغربية، خدمة لأمن إسرائيل، وإبداء حسن النية والسلوك تجاه هذا العدو، نظراً لأن هذه الدول وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وتعتبرها مقدسة، وغير قابلة للتغيير أو التعديل.
بعد اتفاقية أوسلو المشؤومة عام 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حاولت السلطة الفلسطينية تنفيذ التزاماتها بكل إخلاص، من أجل إقامة دولة على أراضي عام 1967، على الرغم من معارضة فئات كثيرة من الشعب الفلسطيني هذه الاتفاقية، إلا أن إسرائيل تنصلت من التزاماتها في هذه الاتفاقية، وكان من المفروض إعلان دولة فلسطينية بعد خمس سنوات من تاريخ عقد هذه الاتفاقية. لكن إسرائيل أعادت احتلال المدن الفلسطينية، ولم تلتزم إلا بالنواحي الأمنية، أي مسألة التنسيق الأمني مع السلطة، من أجل الحفاظ على أمنها، لذلك تُعتبر إسرائيل هي المستفيد الأكبر من هذا الوضع، وللأسف تحترم السلطة الفلسطينية هذا التنسيق، بل وتدافع عنه.
أما من ناحية أخرى، فإن حركة حماس، ومنذ سيطرتها على قطاع غزة التزمت بعدة هُدن، وحاولت احترام هذه الهُدن، ولكن دولة الاحتلال دائماً كانت تتنصل من الاتفاقات، ولا تحترمها، وتخرقها متى يحلو لها، وهذا ما حصل بعد هدنة 2012، إذ استمرت إسرائيل في سياسة الاعتداء على قطاع غزة وقصفه، وإغلاق جميع المنافذ منه وإليه، ومنع المزارعين من العمل في أراضيهم، ومنع الصيادين من الإبحار والصيد.
العدوان الجديد الذي تشنه دولة الاحتلال على قطاع غزة، وارتكابها المجازر فيه، لم يثن حركة المقاومة عن مجابهة الصلف الصهيوني، وعدم قبول أي وقف إطلاق نار، أو أي هدنة مع الاحتلال، ما لم تتحقق شروط المقاومة، وأهمها فك الحصار عن قطاع غزة، وإطلاق سراح المعتقلين، وإن تعنت المقاومة والدفاع عن شروطها نتيجة تجربة، لأن كل اتفاقية وهدنة كانت تعقد مع هذا العدو كانت تجير لصالحه، لكن حركة حماس، ومعها كل قوى المقاومة، قلبت المعادلة، ورفضت بنود المبادرة المصرية المذلة، وتصدت للضغوط التي تمارس عليها من الدول العربية للموافقة عليها، لأن المقاومة تعرف، إن وافقت على هذه المبادرة، فإن قطاع غزة سيبقى محاصرأ، ولن يلتزم العدو بأي هدنة.
كل هدنة، أو اتفاقية توقع مع دولة الاحتلال، تعتبر دائماً لمصلحتها، ولإطالة عمرها وتقويتها لفرض شروط الذل والاستسلام على الأطراف العربية، والدول العربية بضعفها وتآمرها على المقاومة تعطي المبرر لاستمرار إسرائيل بالبقاء فوق القانون، لكن المقاومة، اليوم، تقول إن زمن تعنت الاحتلال وجبروته ولّى إلى غير رجعة.