في إحدى ضواحي باريس، يموضع إريك بودلير كاميراته ليصوّر "فيلم درامي" (وثائقي)، عن مجموعة تلامذة داخل مدرسة تقع في حيّ، يغلب عليه المهاجرون. طوال 4 أعوام، تابع المخرج الفرنسي هؤلاء الأطفال، مُوثّقاً نقاشاتهم وسعيهم إلى فهم ماهية السينما، وصولاً إلى تورّطهم الكامل في صناعة الفيلم. يقارب التلامذة كلّ ما يجري حولهم ببراءة، فيها الكثير من الفضول والرغبة في التحليل. في عالم لا يكفّ عن التغيّر، يسأل المخرج: أي مكان لهؤلاء؟
"فيلم درامي" عُرض في الدورة الـ49 (22 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، حيث التقت "العربي الجديد" مخرجه بودلير في هذا الحوار.
"فيلم درامي" عمل يتّسم بالغرابة. أهو فيلم عن أطفال، أم من بطولة أطفال، أم إخراج أطفال؟ كيف تُصنّفه؟
عندما بدأتُ التخطيط للمشروع، قلتُ إنّي بصدد تحقيق عمل يبدأ كفيلم عن أطفال، ثم يُصبح فيلماً مع أطفال، لينتهي فعلاً كما قلتَ: فيلم يُنجزه الأطفال أنفسهم. استغرق التصوير 4 أعوام، عشنا خلالها تفاصيل كثيرة. رأيتُ الأطفال يكبرون، والفيلم يصوّر هذا. عندما التقيتهم، كانوا في الحادية عشرة من العمر، وعندما انتهى التصوير، كانوا قد أصبحوا في الخامسة عشرة تقريباً.
هذا الفيلم عن فترة من حياتهم. كنتُ أجتمع بهم مرّة كلّ أسبوعين أو 3 أسابيع. كنّا نجتمع بشكل خاص في المدرسة. التلامذة تطوّعوا لأنجز وإياهم هذا المشروع. لم يكن هناك موضوع محدّد. الفكرة كانت عامة جداً، تتمحور حول الرغبة في صنع فيلم. انتهى المشروع بأنْ يكون فيلماً عن كيفية صنعه.
العمل مع الأطفال يتطلّب حذراً كثيراً. لكنْ، هل هناك دروس تعلّمتها خلال احتكاكك بهم؟
أكثر من التعلّم نفسه، التعامل مع الأطفال جعل ظنوني تتأكّد. أحدها أنّنا إذا طرحنا عليهم أسئلة معقّدة، سنحصل حتماً على أجوبة مثيرة. لذا، علينا ألا نحطّ من شأنهم، فهم قادرون جداً على الإتيان بردود مثيرة على أسئلة كبيرة تشكّل مصدر قلق لنا جميعاً.
أمرٌ آخر تأكّدتُ منه أثناء إنجازي الفيلم: من موقعي كسينمائي، لم أكن هنا لأعلّمهم أي شيء. لو جئتُ إليهم لتعليمهم، لأعادوا إنتاج ما علّمتهم إيّاه. بدلاً من هذا، ذهبنا في طريق أخرى. اقتصرت الفكرة على التقاط القدرة على الخلق والإبداع عندهم، من دون شرح الكيفية. وددتُ من الفيلم أن يعكس فكرة الجيل العفوي. يجوز القول عن هذا الجيل إنّه "يتعلّم من دون أنْ يعلَمْ أنّه يتعلّم". إنّه التعليم بعيداً من فكرة الإملاء. المعرفة ليست بالضرورة ما يُنقَل من شخص إلى آخر، بل ما يولد عندما نفكّر جماعياً.
شعرتُ وأنا أشاهد الفيلم بأنّ هناك فيلمين داخله: الذي أنجزتَه أنتَ، والذي أنجزه التلامذة. ما رأيك؟
لا أوافقك. أعتقد أنّه لا يوجد فيلمان داخل الفيلم. هناك فيلم واحد. بعد بداية الفيلم بقليل، لا نعود نسأل: أهذه المشاهد من تصويري، أم من تصوير التلامذة؟ بعد فترة، تُصبح المَشاهد كلّها مَشاهد الفيلم، ولا يهمّ إذا كانت من تصويري أو من تصوير طفل. بنية الفيلم ومونتاجه يميلان إلى هذا المبدأ: القول إنّه لا يوجد تمييز بين مَنْ صَوَّر هذا المَشهد ومَنْ صوّر ذاك الآخر.
الفيلم يستند إلى حدّ كبير على علاقتك بالتلامذة. لكن، انطلاقاً من أيّ لحظة نرى هذه العلاقة في الفيلم؟
بدأنا نصوّر منذ اللقاء الأول، أو الثاني ربما. نرى هذا في الفيلم. بدأنا نعمل معاً في سبتمبر/ أيلول 2015. بعد شهرين، وقعت اعتداءات إرهابية في باريس (13 نوفمبر/ تشرين الثاني). على أثرها، بدأنا نصوّر النقاشات التي تبلورت جرّاء الحدث. ثم، شيئاً فشيئاً، انتقلنا من الحديث عن السينما إلى صناعتها. في العامين التاليين، أعطيتُ التلامذة كاميرات صغيرة كي يصوّروا وهم في منازلهم. ثم كنّا نناقش المَشاهد التي يصوّرونها. هكذا تعمّق الحديث عن السينما وماهيتها، والتفاصيل المرتبطة بها.
مُجدّداً أقول إنّي لم أكن أقوم بمهمّة بيداغوجية من النوع التقليدي. لم أحدّد مُسبقاً القواعد التي يجب أنْ أتحرّك في إطارها. لم أطرح أسئلة من نوع: ما الذي سأتكلّم عنه؟ وكيف؟ اقتصر العمل على فتح نقاشات، وجعل الجميع يتشاركون فيها. لم تكن ورشة، كانت منبراً للتفكير.
أين تقع هذه المدرسة التي صوّرتَ فيها؟
إنّها إحدى مدارس المناطق التي تحمل في فرنسا صفة "صعبة"، تضمّ أبناء مهاجرين. تقع في الحي "93، سين سان دُنِي". هذه المنطقة يعيش فيها أناسٌ ظروفهم المادية غير جيّدة. كوني ماركسياً، أفضّل أنْ أعرفهم طبقياً لا عرقياً. عندما أتكلّم عن ظروفهم المادية، أقصد نسبةً إلى فرنسا، فهذا نسبيّ جداً.
عدتُ إلى فرنسا بعد إدراكي، في لحظة من اللحظات، أنّي أنجزتُ عدداً من الأفلام خارجها، أو عن حقبات تاريخية بعيدة. لذلك، بعد 2015، تملّكتني الرغبة في إنجاز فيلمين في بلدي، على أنْ أصوّرهما في مكان قريب من مكان إقامتي. صوّرتُ هذا الفيلم، وفيلماً آخر عنوانه "معروف أيضاً كجهادي"، الذي يتحدّث عن شاب فرنسي يُقرّر الانضمام إلى "داعش". قررتُ إنجازه لأنّي وددتُ أنْ أعرف ما الذي دفعه إلى الالتحاق بهذا التنظيم. جاء الفيلمان في لحظة قلتُ فيها لنفسي: "عليك أنْ تتوقّف عن الانشغال بما يجري في أماكن بعيدة، وتهتم بما يجري في بيئتك وحاضرك".
هناك مَشاهد في الفيلم لا تستوفي شروط الجماليات، ومع ذلك تستخدمها. هل محتوى الصورة هو الذي يملي عليك ضرورة استعمالها من عدمه؟
جمالية الصورة شيء نسبيّ جداً. ربما هناك حاجة إليها عند الذي صوّرها. أو لعلّني رأيتُ فيها مع مونتيرتي دوراً لها على أكثر من مستوى. ربما يتحقّق هذا الدور على مستوى الصوت أو حركة الكاميرا. عدم تشكّل المشهد بطريقة كلاسيكية لا يعني أنّه خالٍ من المشاعر. ربما اخترتُ هذا المشهد، لأنّ الانفعال فيه تغلّب على الجمالية.
صوّرتَ كثيراً على ما يبدو. لكنْ، كيف اشتغلتَ المونتاج؟
اشتغلناه على مرحلتين: هناك مرحلة سبقت المونتاج، جمعنا خلالها لقطات، بينما التصوير مستمرٌ. في تلك الفترة، كنتُ لا أزال مقتنعاً بضرورة الخروج بمسلسل لا بفيلم، مع حلقتين كلّ عام، خلال 4 أعوام، فأحصل في النهاية على مسلسل من 8 حلقات. لكنْ، بعد التخطيط للحلقة الثالثة، أدركتُ فجأةً أنّ ليس هذا ما أريده، فما أريده هو إنجاز فيلم.
لكن عرض الحلقات على التلامذة ساعد كثيراً في فتح نقاش، انطلاقاً من مواد موجودة وأشياء ملموسة أمام عيوننا. لهذا تأثيرٌ كبيرٌ على الطريقة التي عملوا بها لاحقاً. في العام الأخير، عدنا إلى نقطة الانطلاق. قررتُ أنّ علينا مُشاهدة المادة المُصوّرة كلّها مُجدّداً، وكان هذا عملاً هائلاً، لأنّ المادة التي في حوزتنا كبيرة جداً. في هذه المرحلة، طرحت سؤالاً على نفسي: ماذا سيحصل إذا انطلقتُ من الصفر لتنظيم هذه المَشاهد، التي بعضها لي وبعضها للتلامذة؟ هنا، قرّرت أنّه يجب متابعة تسلسل زمني معين، لكنْ يجب ألّا أميّز بين المَشاهد.
هل ساورتك شكوك في أنّ ما تصوّره ربما لا يفضي إلى فيلمٍ، وربما لا ينتج منه شيء؟
بالتأكيد. لهذا السبب، الفيلم "أخطر" من أفلامي السابقة، وفيه مجال أكبر للمجازفة. أنْ تقول لنفسك: "لا أعرف إلى أين أمضي، ولا أريد أنْ تقلقني حقيقة أنّي لا أعرف"، هذا خيار سينمائي بحدّ ذاته. خيار يُمكن أنْ يكون مُرعباً. أضف إلى أنّك عندما تعمل على مشروع طوال 4 أعوام، ربما تفقد الخيط الذي تمسكه، ويُمكن أنْ تُساورك شكوكٌ كثيرة حول فائدة العمل الذي تقوم به. هذا أصعب وأطول فيلم أنجزته. بذلتُ فيه جهداً كبيراً.
وهل استطعتَ أنْ تمدّ التلامذة بالمقدار نفسه من الحماسة، طول تلك الفترة كلّها؟
ليس طول الفترة (ضحك). خلال التصوير، بلغ بعضهم مرحلة المراهقة. هذه ليست فترة سهلة في حياة الإنسان. لم أفقد الكثير منهم. بدأتُ مع 25 طالباً، وانتهيتُ مع 20. الذين استمروا في المشروع التزموا به إلى حدّ بعيد. أعتقد أيضاً أنّه كانت تحلو لهم فكرة البقاء معاً. أحبّوا تلك "اللمّة" التي صنعت شيئاً ما في داخلهم.
في النهاية، من خلال هذا الفيلم، وددتُ القول إنّ كلّ شيء على ما يرام. في فرنسا، اعتدنا مشاهدة أفلامٍ عن الضواحي تحفل بالعنف والمخدّرات والإجرام. الصحافة تعشق هذه المواضيع، وتبالغ في تصويرها. لكن، مَن يعش في منطقة 93، يعرف جيداً أنْ الحقيقةَ أقرب إلى ما أصوّره. لا أنكر وجود العنف، لكنّ فيلمي يقارب الأشياء من زاوية أخرى.