إرشادات السباحة على الظهر مع قذيفة شيلكا

23 أكتوبر 2015
جدارية لـ إسكيف
+ الخط -
يقولون إنّ هذه المدينة كانت جميلة. لم أعرف في الحقيقة، إذ عشت طيلة ذلك الوقت فيها بنظرٍ كليل. عندما انتبهت إلى ضرورة فحص عينيّ كان الوقت قد تأخّر. كنت أظنّ أنّ العالم يبدو على ذلك النحو حتى دخلت امرأة إلى الشركة حيث أعمل وجلست على كرسي الانتظار مقابل مكتب المدير. سألت زميلي عمن تكون فأعارني نظارته مستغرباً أنّني لم أعرفها وهي تعمل معنا منذ وقتٍ طويل. عندما وضعت نظارته على عينيّ رأيت كلّ ما هو حولي للمرة الأولى.

تبيّن أنّني لا أستطيع رؤية ما يبعد عني أكثر من مترٍ واحد. بعد خروجي من عند الطبيب، الذي وضع عدسات طبية أمام عيني لأتمكن من رؤية الأرقام على اللوحة الضوئية، شعرت بفداحة المشكلة: بدا الشارع مسرحية لأضواء متراقصة مشوّشة، فكّرت أنّني كنت طيلة تلك المدة قطة يونج العمياء الشهيرة التي لا يمكن تعليمها أي شيء.

مشيت نحو المنزل وأنا أراقب المزيد من الأسباب التي تعني أنّني لست على ما يرام. المطر الذي كان يبلل الزقاق الآن كان يبدو وكأنّه ذاته الذي بلّله العام الماضي. كان يلزمني الكثير من الجهد لأدفع دفق الحيوية في أطرافي وأنا أرى كم يعني ذلك الذي يحدث من موات. لا، لم يكن ينبغي لذلك المطر نفسه أن يحدث نفسه مرتين في الزقاق نفسه. وذلك يعني فقط أنّنا لم نتحرك خطوةً واحدة منذ سنة على الأقل.

قبل أن أصل إلى المنزل لمحت شقيقي الأصغر في الحي يدخّن متكئاً على سيارة وهو يحمل في يده قنينة بيرة. زاد ظهوره في هذا التوقيت من قلقي، إذ كان يمكن أن أستسلم لفكرة أنني قد أبقى عالقةً في زقاق واحد حتى انتهاء الزمن وأنا أصدأ بالتدريج تحت المطر نفسه، ولكن لا يجب أن يحدث له ذلك.

انتبه إليّ وتوجه نحوي ليسألني لم أبدو بهذا المزاج السيئ. لم يكن هناك وقتٌ كافٍ لأفسّر كل شيء، قلت له باختصار إنّني ذهبت إلى الطبيب وإنّني قطة عمياء وإنّني أريده أن يسافر. قادني من يدي إلى المنزل وهو يقول إنّ مزاجي سيتحسن حالما أحصل على نظاراتي الجديدة. وضعني في المصعد وعاد إلى الحي ليلاقي أصحابه. من المصعد الزجاجي راقبته وهو يصغر حجماً ويبتعد.

بعد ذلك بأيام حصلت على نظاراتي الطبية. كان الأمر أفضل دون شكّ، ولكن، لأنّ الوقت كان قد تأخر لأرى المدينة، كان كلّ ما حصلت عليه هو مشاهد واضحة للغاية للقذائف الحمراء المتوّهجة ليلاً، والمنطلقة من سفح الجبل الذي تكشفه شرفة منزلنا العالية، إلى منطقةٍ لا أعرفها، أو طائرات الهيلكوبتر العسكرية في الصباح الباكر التي تحلّق ببطء متوجهة إلى أحياء أخرى مجهولة لي أيضاً.

لم الكذب، لم تكن هذه المناطق المستهدفة جزءاً من حياتي يوماً. كنت أتحرّك ضمن مساحة مقيّدة الحدود في قلب المدينة. المدرسة ثم الجامعة، أماكن السهر والمقاهي. لم تقفز إلى دائرة اهتمامي إلا بعد الحرب، وذلك أمر لا علاقة له بضعف النظر.

كان هذا سبباً آخر سوى ضعف الرؤية لئلا أتعلق كثيراً بهذا المكان ولا أجد فيه شيئاً مدهشاً. كنت أرى جمال المدينة موجهاً فقط للسياح الذين يأتون ويبتهجون لمرأى البسط الملونة والدكاكين الشعبية في المدينة القديمة، يعجبون بمودة الناس غالباً لأنّهم لا ينتبهون أنّهم يتلقّون الشتائم طيلة الوقت بالعربية من باب الدعابة.

لقد ساعدتني النظارة المصنوعة بإتقان على رؤية ما حلّ بالمدينة بشكل أوضح، ولذلك خجلت من نفوري السابق منها. كان يبدو أنّها نضجت الآن. كنت أراها من بين المدن كمراهقة أكره حماقتها وتباهيها، والآن بدا أنّ روحها قد تشذّبت إثر الفاجعة. مع ذلك لا يستطيع أحد أن يحميها. ما الذي استفدناه إذاً؟ ألم يكن من الأفضل أن تبقى مراهقة متباهية وأبقى أنا متوترةً ضعيفة البصر؟

الهاتف يرنّ، دعوة للذهاب إلى مكانٍ ما. أناس يستريحون في المقاهي بعد التظاهرات، أحد الأصدقاء يمرّ على الطاولة ليدعونا في نزهة إلى المسبح الصيفي الذي تمتلكه أسرته في ريف المدينة.

وضبّت أغراضي بعد أيام وذهبت. في الطريق كان أحد رجال الشرطة يمازح طفلاً من الحي، مصوباً بندقيته باتجاهه وهو يسأله عن أي فريقٍ يشجع. كان الطفل يكشف عن بطنه بتحدٍ أمام البندقية متفاخراً بالفريق الذي يشجعّه، والذي لم يكن يروق للشرطي كما يبدو.

بدت لي ملامح الولد مألوفة. حاولت كثيراً أن أتذكر ابن من هذا في الحيّ ولكنّني استدركت الخطأ، فلم يكن من الممكن أن أميزه في كل الأحوال. فلم أكن أرى جيداً فيما مضى، وأياً كان شكله فهو جديد لعينيّ.

تقدمت إليهما، أمسكت يد الولد وأسرعت بالسير، إذ كان يجب أن نصل إلى المسبح بأسرع ما يمكن. الريف منطقة اشتباكات بالطبع، ولكنّ تلك هي التسوية الأفضل: أن نذهب إلى هناك للغطس في المياه التي تظللها شتى أنواع القذائف.

مررنا بالحواجز الأمنية كلها التي تقطّع أوصال قلب المدينة، كان الجنود يدعوننا نمرّ دون اكتراث كأي أم وابن. كان الولد غير مهتم بطرح أي أسئلة مقابل التسلية التي وجدها في هذه الرحلة. شددت على يده بقوة وحثثت خطاي بهدف أن أصل إلى فسحة الماء تلك.

لم يكن أحد قد وصل ولكنّ القفز فوق الباب الحديدي للمسبح كان سهلاً. انحنيت وشبكت يديّ ليتمكن الولد من اعتلائهما كعتبة سلم ويقفز بسهولة فوق الباب.

سألته، عندما أصبحنا في الداخل، ابن أيّ جار هو. قال لي إنّه لا يقطن في الحي، وإنّما هو ابن اللحام فقط. تذكرت الجزار الذي كان له محل في حيّنا فيما مضى عندما كنت طفلة بعد، ولكنّني لم أتخيل أن يكون له ولد صغير بهذه السنّ.

أذكر فقط ولداً له يحدّث نفسه طيلة الوقت، لم يكن أحد يعرف اسمه ويناديه الجيران: "ابن اللحام" فقط. كان مغرماً بالعصافير البرية، يمسكها ويضعها في أقفاص يقدمها كهدايا إجبارية لأولاد الحي. ذات مرة نلت نصيبي من هذه الهدايا، قفصاً فيه عصفور بني. تبرمت أمي لظنّها أنّ قبول الهدايا من ابن اللحام قد يشجّعه على التمادي أكثر ورفع الكلفة معنا، ولكنّ العصفور مات على كلّ الأحوال بعد أيام.

كانت لابن اللحام واقعة مشهورة؛ ذات صباح شتوي، وبينما كنت أصعد إلى باص المدرسة من الموقف الذي يقع أمام الفرن في الحي، كان ابن اللحام يمشي باتجاهنا وهو يتحدث إلى نفسه بغضبٍ بالغ ممسكاً مجموعةً من الأوراق. شعرت بالإحراج الشديد إذ خشيت أن يسلّم عليّ أمام بقية التلاميذ الموجودين في الباص وهو ظاهر الجنون، لكنّه فعل ما هو أكثر رعباً من ذلك.

توقف أمام الفرن وأخرج قدّاحة من جيبه وهو يكمل صياحه وقام بإشعال الأوراق. كان الذعر بادياً على الوجوه، التلاميذ وسائق الباص ومراقبة الباص وصاحب الفرن، إذ تبيّن أنّ هذه الأوراق كانت صوراً للرئيس.

اختفى ابن اللحام بعد ذلك وبقي محل أبيه مقفلاً لعدة أيام، قبل أن يتجرأ ويعود للعمل فيه وعينه تراقب الطريق على الدوام. بعد ذلك عاد ابن اللحام للظهور في الحيّ وكأن شيئاً لم يكن ممارساً هواياته في الحديث مع نفسه وإهداء العصافير للأولاد، قبل أن يختفي مع والده بعد أن أُقفِل محل الجزّار وتحول إلى صيدلية يديرها صيدلاني شاب أقل إثارة للاهتمام من الجزار وابنه. لم تكن لديه أي ميزة سوى فضوله الذي يلاحق الجيران، ممطراً كل زبون بأسئلة متلذذة عن أخبار الطلاق والخيانة ونشوز البنات في الحيّ.

سألت الولد الذي معي عن اسم أبيه لأعرف إن كان شقيقاً أصغر لابن اللحام، ولكنّ الاسم لم يلمس أي مكان في ذاكرتي. وذلك منطقي إذ غالباً لم أقرأ اسم الجزار بوضوح في أي مرة على لافتة المحل. قلت للولد إنّ عليه الشعور بالاطمئنان إذ لن يوجّه له أحد بندقية بعد اليوم، فهزّ كتفيه دون اكتراث وقال إنّ ما يهمّه هو أن نعود قبل أن تبدأ المباراة فقط.

بعد ثوانٍ كان كل شيء أفضل. إذ عندما أصبحنا تحت الماء، أنا والولد، كان كل شيء قد أصبح مرمياً فوق في الخارج: الذنوب وسيرة حياتي الباهتة، الرؤية الواضحة المستجدّة لطائرات الهليكوبتر العسكرية.

الولد بأمان، هنا لن يصل إليك أحد، إلا ربما قذيفة شيلكا طائشة تنثر الماء المدمّى من حولك. لا بأس في ذلك، لا أحد يغطس مرتدياً نظارته على كل حال، ولن أتمكن من تمييز ما يجري لنا بشكلٍ جيد حينها. كم هم تعساء الحظ أولئك السابحون حادّو البصر: لقد رأوا جيداً كل ما جرى للمدينة منذ زمنٍ طويل.


* كاتبة قصة سورية مقيمة في برلين


اقرأ أيضاً: عطلتي الصيفية 

المساهمون