إرادة المقاومة = سينما التغيير

06 أكتوبر 2015
لوحة للفنان الفلسطيني محمد جحا
+ الخط -
ببساطة مذهلة يضع إيليا سليمان - ضيف حوار "ملحق الثقافة" هذا الأسبوع - إصبعه على إحدى أبرز الغايات المتوخّاة للفن المشهدي والثقافة عموماً.
يفعل ذلك حين يؤكد أن مصدر إلهامه الرئيسيّ في أفلامه كافة هو "من إرادة معيّنة بالمقاومة، ومن الحال التي نحن فيها ليس في فلسطين وحدها لكن بصورة عامة". وأتبع ذلك قائلًا: "أقصد أن تكون مع الفلسطينيين يعني أن تكون مع التغيير، مع حركة التقدّم، وبالنسبة إليّ فلسطين هي في قلب كلّ هذا... إن الرغبة بالتغيير هي التي تولّد السخرية التي ترينها في أفلامي أيضًا، فهذه الأمور كلها مرتبطة ببعضها".
إن الشغف بالمقاومة لدى سليمان رديف شغف بالتغيير إذًا، ومن هنا تتحوّل إرادات معينة بالمقاومة بواسطة سينماه إلى رغبات بالتغيير عنده بداية، وباشتهاء أن تنتقل إلى المشاهد كذلك.
ولا تقتصر الرغبات الإنسانية لدى البشر على ما ينهمك منها بإحداث التغيير، وإنما أيضاً تنسحب على رغبات عديدة عداها، على شاكلة رغبة الفلسطيني بكيفية عيش حياته وفقًا للطريقة التي يريدها فيها، ورغبته بكيفية إيجاد لذّته الشخصية، وبكيفية الاستمتاع بحياته اليومية بحيث يكون فيها استمرار للحياة المحبّة والمليئة بالرغبات وفيها تجديد. وبرأيه لا يختلف الفلسطيني في هذا الخصوص عن أي شخص آخر، وتحت الاحتلال تحديدًا يتكوّن لديه نوع خاص من الإصرار على مواصلة حياته، هو ما يحاول أن يرصده.

اقرأ أيضاً: كتـابة المكـان

في واقع الأمر، عرف التاريخ أيضاً شغفاً بالأدب أفضى إلى رغبة بالتغيير في مجريات الواقع.
من ذلك مثلًا ما رُوي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن أمير روسي يُدعى نيكولاي أورلوف كان جنرال حرب شديد البأس، وقف شغفه بالأدب وراء قراءته كتاب "ذكريات من منزل الأموات" الذي ألّفـه فيدور دوستويفسكي في بداية طريقه الأدبيّ، وأورد فيه توصيفاً لصنوف العقاب الوحشي التي كانت تُطبّق على البشر وفق ما عاشها واختبرها بنفسه عندما كان معتقلاً في أقاصي سيبيريا.
وبحسب هذه الرواية، فور أن انتهى أورلوف من قراءة الكتاب وجّه رسالة إلى القيصر الروسي طالب فيها بإلغاء العقوبات الجسدية التي وصفها دوستويفسكي، فكان له ما أراد.
على صعيدي إرادة المقاومة ورغبة التغيير، تذكّر أفلام سليمان على نحو أساسي بأشياء عديدة، في مقدمها ما لتجريد الفكرة المحدّدة من دور مهم في وحدة دلالات الرمز والمعنى، وفي إثراء المخيال العام، وفي شحن الذاكرة.
ويبدو لي أن أفضل إحالة تتقنها أفكاره المبثوثة في أفلامه في مستوى الاستجابة والتحدّي تكمن في استحضار حالات من اللاوعي القارّ في الكينونة الفلسطينية - بقدر ما إن هذا اللاوعي يشكل معطى تاريخيًا تراكميًا نجم عمّا يسمى الاختمار الثقافي- وتفنينها مشهديًا في قلب الواقع كتحفيز للوعي.
إن الحياة المُستحضرة في أفلام سليمان هي حياة الفلسطيني في حيّـزه المتشظي من زواياها المتعدّدة.

اقرأ أيضاً: سينمائيون فلسطينيون وهمّ تجاوز السائد والمألوف

بصورة عامة فإنه يصوّر في أفلامه المكان والعلاقة بينه وبين البشر.
فضلاً عن ذلك، يصوّر أيضًا الكثير من العلائق الغرائبية التي توحي بها حالات عبثية، حمّالة أوجه، يفرزها الواقع ومن الصعب حصرها. لكن الأمر الأهم يظلّ أنه، عبر هذا كله، يبدع حالة وجدانية كاملة، ومن ثمّ ينقلها بتفصيلاتها الممتعة إلى المشاهد، عادة من دون اللجوء فقط إلى الحلول السينمائية المعتادة في السينما الفلسطينية والعربية، من وصف وتشبيه واستعارة، وبواسطة حدّ أدنى من توظيف الحوار Dialogue وحدّ أقصى من الصمت الذي يندّ بدوره عن عمق نفساني للحالات والشخوص.
يمتلك سليمان رؤية متبصّرة مستمدّة من وعيه لواقعه العينيّ ومن انكشافه على ثقافات العالم. كما أنه يمتلك عينًا لاقطة تمكّنه من أن يجعل أي مشهد بصري كيانًا متحرّكًا، يبثّ بجوار العبث والمفارقة والسخرية السوداء والمحاكاة الساخرة (Parodie)، حميمية علاقة الناس مع الأمكنة، وخصوصية علاقته معهما.
وإذا ما جاز لي أن أكمل مقولة أطلقت لدى التطرّق فيما سبق إلى تجربة سينمائي فلسطيني متميّز آخر، أكرّر أن القيمة الحقيقية لإنتاج سينمائيين على غرار سليمان تكمن في أن هذا الإنتاج مهموم بأن يتجاوز إلى حدّ كبير السائد والمألوف في حقل السينما العربية المعاصرة، وبأن يحلّق في فضاء المساءلة، ويجتهد باستمرار كي يستأثر لنفسه بلغة فنيّة مخصوصة تخلّف أثرًا متميّزًا، لمسًا ورؤية.
مهما يكن هذا الأثر لا بُدّ من التنويه بأن ما يتضمنه من أفكار ومعتقدات وأحلام تتغلغل إلى قلوب الناس المشاهدين وعقولهم أكثر مما تحكمهم به السجون والقوانين.
المساهمون