إحياء جنيف من فيينا: امتطاء روسي لتأبيد بقاء الأسد

25 أكتوبر 2015
اقترح لافروف غطاء جوياً لفصائل المعارضة(كارلو أليغري/فرانس برس)
+ الخط -
فجأة، قفز مضمون "بيان جنيف 1" 2012 حول الملف السوري إلى السطح من جديد، وكأنه نال حقنة حياة بعدما بقي، منذ التوقيع عليه ذات يونيو/حزيران من العام الثاني للثورة السورية، حتى أسابيع خلت، في حكم المنسي. فجأة، صار هناك ما يشبه الإجماع العالمي على ضرورة أن يكون الحل السوري نابعاً من روحية جنيف 1 لناحية تنظيم مرحلة انتقالية بهيئة حكم ذات صلاحيات تنفيذية، اكتفى المجتمعون في العاصمة السويسرية قبل 3 سنوات ونيّف بتوصيف ملامحها العامة، من دون تحديد صلاحياتها وحدود عملها ونسب تقاسمها ورموزها ومصير أركان نظام بشار الأسد...

بحسب ما كان مقرراً في حينها، أي في 2012، كان يجدر أن ينعقد جنيف اثنان وثلاثة وأربعة ربما، على شاكلة ما حصل من مؤتمرات خاصة بالحرب الأهلية اللبنانية منذ اتفاق لوزان حتى الطائف، لذلك تمت تسمية المؤتمر وخلاصاته بجنيف 1 للإشارة إلى اعتباره حلقة في مسلسل لم تبصر مشاهده النور، بما أنه حتى جنيف 2 جاء ليشكل قطيعة مع سلفه الأول.


وانتهى اجتماع فيينا الرباعي، يوم الجمعة، بلا أي مشاركة سورية، بين وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا من أجل إيجاد حل سياسي في سورية، بالاتفاق الضمني أو العلني على نقطتين: أولاً تطبيع مع التدخل الروسي لمصلحة النظام، بدليل عدم تطرّق أي من تصريحات المعنيين عن الحرب الروسية في سورية، بالتالي التعامل مع هذا التدخل على اعتباره بات أمراً واقعاً ستنتج عنه تداعيات سياسية بالضرورة، وثانياً إجماع على خطة سياسية تستند إلى مخرجات مؤتمر جنيف 1 وعلى معاودة المشاورات الدولية بمشاركة "أربعة جدد"، يفترض أن يكونوا قطر وإيران والأردن ومصر، من أجل التوصل لصيغة حل سياسي يتوافق عليها الجميع.

إلا أن الخلاف الجوهري الذي ظهر خلال لقاءات فيينا كان حول مدة المرحلة الانتقالية التي سيبقى فيها الرئيس بشار الأسد في الحكم، وعلى إمكانية ترشحه في المرحلة اللاحقة والذي لا زالت روسيا تصر على أن تمتد هذه المرحلة حتى انتهاء ولايته (في العام 2021) وعلى حق الأسد في الترشح، فيما تصر بقية الأطراف المجتمعة على ألا يتجاوز وجوده مدة ستة أشهر من دون أن يكون له أي دور في المرحلة اللاحقة.

وقد يكون تقارب المواقف بين كل من الولايات المتحدة وتركيا والسعودية، قد دفع بروسيا إلى المطالبة بدعوة الضيوف الجدد، منهم قطر وإيران، اللتان قد يكون منطقيا دعوتهما كون كل منهما تقف بجانب أحد الأطراف. إلا أن طلب روسيا دعوة كل من مصر والأردن يشير إلى مدى التقارب في المواقف بين روسيا وهاتين الدولتين. في هذا السياق، يندرج كلام وزارة الخارجية الروسية، أمس السبت، في بيان، عن اتفاق وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والمصري سامح شكري على مواصلة التعاون من أجل إيجاد تسوية سياسية في سورية، في اتصال هاتفي بينهما، وهو ما تلا اتفاقاً عسكرياً روسياً أردنياً حول سورية. 

ويبدو أن عقدة بيان جنيف 1 الذي أقرته مجموعة العمل حول سورية، تكمن في أنه بيان مكتوب بلغة حمّالة أوجه في بعض بنوده، كان يحتاج إلى اجتماعات لاحقة من أجل إعادة صياغته بلغة غير قابلة للتأويل، وخاصة في ما يتعلق بمصير بشار الأسد وبماهية هيئة الحكم الانتقالية واسعة الصلاحيات التي نص عليها البيان.

اقرأ أيضاً أفكار لقاءات فيينا السورية: حكومة انتقالية ومجلس عسكري

عقدة ثانية تسكن روحية جنيف، تتمثل في أن اتفاق العام 2012 حصل في ظروف لا تشبه أوضاع اليوم بتاتاً؛ في حينها، كانت الثورة لا تزال فتيّة، وكان الميدان تتقاسمه قوتان: النظام والجيش السوري الحرّ، من دون وجود كبير لتنظيم "داعش" ولا "جبهة النصرة". في حينها، كانت الأرض التي يمسك بها النظام أكثر من نسبة العشرين في المئة التي يمسكها اليوم بمعاونة قوى عالمية، روسية إيرانية لبنانية عراقية.

حتى في تلك الفترة، قبل مجزرة الكيماوي في الغوطتين منتصف 2013، وقبل أن يصل عدد ضحايا الثورة إلى ما يزيد عن 300 ألف بحسب تقديرات متعددة، وقبل أن يصبح ملايين السوريين مشردون خارج بلدهم... قبل كل ذلك، رفضت المعارضة الصيغة، على قاعدة أن الحكومة الانتقالية المأمولة يستحيل أن تضمّ المعارضة والنظام المسؤول عن الكارثة السورية. وإن كان الحال كذلك في 2012، فكيف يمكن أن يكون رد فعل القوى المعارضة الممسكة بالأرض اليوم، أكانت قوى مسلحة تعترف بضرورة التوصل إلى حل سياسي، أو قوى ترفض المبدأ، مثل "داعش" و"النصرة"؟

يبدو أن روسيا تسعى من خلال طرحها لحل سياسي يبقي بشار الأسد أطول فترة ممكنة تليها هيئة حكم برلمانية، من أجل ضمان مصلحتها أولاً في سورية خلال تلك المرحلة الانتقالية المزعومة، على قاعدة أنه يصعب على روسيا أن تثق بطرف سوري ثقة عمياء حالياً، إلا ببشار الأسد. لذلك، يرى كثيرون أن الروس يرغبون ببقاء الأسد شخصياً لأطول فترة ممكنة من أجل الحصول على الوقت الكافي لتهيئة عناصر موالية لهم ضمن الهيئة الجديدة، سواء ضمن البرلمان الجديد المنوي إنشاؤه أو ضمن المؤسسات التي تعتبرها موسكو مهمة بالنسبة لها والتي تأتي على رأسها المؤسسة العسكرية.

وتحاول روسيا، في ما يبدو أنه سيكون مسلسل لقاءات فيينا، إدخال أفكار يصفها معارضون سوريون بأنها "خبيثة" وهادفة طبعاً إلى "تأبيد" بقاء النظام ورأسه، من نوع دمج الجيش النظامي بالجيش السوري الحرّ في إطار جيش موحَّد لمحاربة "الإرهاب"، وتأمين غطاء جوي للجيش الحرّ الذي تقوم بقصفه بوتيرة يومية بهدف إلغاء وجوده أصلاً، ويبقى المشهد بين النظام ومليشياته من جهة، و"داعش" و"النصرة" من جهة ثانية.

فكرة أخرى "غريبة" تطرحها روسيا رسمياً، لا تؤدي سوى إلى بقاء النظام أيضاً، تولّى سيرغي لافروف ترجمتها بالقول إن "الأمر يتطلب إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في سورية"، وهو ما لن يؤدي، في الظروف الحالية، سوى إلى تجديد دماء النظام على شاكلة ما حصل في الاستفتاء الدستوري المضحك بكل المقاييس، في العام 2012.

اقرأ أيضاً اجتماع فيينا: ردود فعل متباينة في الأوساط السورية

من جانبه، يرى السفير السوري السابق في السويد بسام العمادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن إصرار مختلف الأطراف الدولية على العودة لمبادئ جنيف 1 "لأنه الاتفاق الوحيد الذي تم بين الأطراف المجتمعة في حينه، واتفاقهم تم لأن عبارات الاتفاق مطاطة ويمكن تفسيرها كلّ على هواه، والأهم هو رحيل بشار من عدمه". وشبّه العمادي اتفاق جنيف بقرار مجلس الأمن الدولي 242 الخاص بالصراع العربي الإسرائيلي الذي صدر بعد عدوان 1967 واختلف العالم في تفسيره بين "الانسحاب من الأراضي المحتلة"، أو "الانسحاب من أراضٍ محتلة".

ويشير العمادي إلى أن عدم تمكّن الأطراف من إجراء اتفاق جديد يجعلها تعود إلى مبادئ جنيف 1، وأن روسيا حالت دون تطبيق الاتفاق لأنها "أصرّت على أن لا ينص صراحة على رحيل بشار الأسد"، كما أنها "أصرت على حقه بالترشح للانتخابات المقبلة، وأن يبقى مسيطراً على الجيش والأمن"، مؤكداً أن القيادة الروسية "فرّغت الاتفاق من أهم بنوده".

وأكد العمادي أن غموض ماهية الهيئة الانتقالية المشتركة بين النظام والمعارضة حال أيضاً دون تطبيق الاتفاق. ورداً على سؤال آخر، رأى أن الاتفاق لم يعد يصلح أساس حل في الوقت الراهن "والحل لا يمكن أن يستند إليه إلا بتغيّر الظروف العسكرية على الأرض لصالح طرف ليقبل بشروط الطرف الآخر". واستطرد بالقول إن السوريين لا يمكنهم القبول بشروط الأسد وداعميه لأنهم سيعودون لما كانوا عليه وأسوأ.

أما المحلل السياسي سلامة كيلة، فقد قال في تصريح خاص لـ"العربي الجديد"، إن "اتفاق جنيف 1 كان نتيجة توافق أميركي روسي، ويبقى حتى اليوم الحل الجدي الوحيد المطروح على ضوء وضوح العجز عن حسم الصراع من قبل النظام أو المعارضة. ولكن الخلاف الذي حكم تطبيقه يتعلّق بالتفسير الروسي الذي يبقي بشار الأسد، لأن الاتفاق لم ينص على وضعه". ويذكّر كيلة بأن هذا الخلاف هو ما أفشل جنيف 2، والذي ما زال يُفشل تطبيق المبادئ.

ويرى كيلة في بيان جنيف أنه حل يفرض تقاسم السلطة بين طرف من النظام الحالي وطرف معارض، وهيئات مجتمعية، وهو سقف ما يمكن أن يتحقق واقعياً نتيجة عجز الثورة عن أن تحقق الانتصار، ورفض الدول "الداعمة" لها لحسم الصراع، لأنها لا تريد انتصار الثورة.
ويشير كيلة إلى أنه في كل الأحوال ليس من الممكن أن ينتهي الصراع القائم دون حل يفرض خروج بشار الأسد ومجموعته، لهذا تظهر هنا العقدة الروسية التي ما زالت تتمسك به، وتعرقل الحل، خصوصاً بعد أن تدخلت عسكريا لمنع سقوطه كما تقول، أو لتعديل ميزان القوى لمصلحته وفرض بقائه كما يظهر في الواقع.