إحياء "حماس" المعلم: فريضة التعليم الغائبة

05 أكتوبر 2016
كثافة الفصل الواحد في المدارس المصرية تصل إلى 70طالباً(Getty)
+ الخط -
في الخامس من أكتوبر من كل عام، توقظ الاحتفالات باليوم العالمي للمعلم بين متابعيها في مصر، شجون هجرها النسيان وكتبتها سلطة الأمر الواقع، حيث طغيان الشعور بأنه: "مفيش فايدة"!، يحتفي العالم بالمعلم تقديراً للرسالة النبيلة والدور الحيوي والقيادي له في المجتمع، بينما نأسى نحن على حال معلمينا كما يأسون على أنفسهم أيضاً.

بين "السعي للتربّح من الطلاب عبر الدروس الخصوصية وضعف المستوى الفني والمهني والانصراف إلى أعمال إضافية" تجتمع ملامح كثيرة ومتشابكة وأحيانا متضاربة لتحكي حال المعلم في مصر، تتحد جميعاً في كونها تشي بحالة من السوء لا تسأم التدهور والانحدار، كما تشترك أيضاً في أن "الحاجة" هي الدافع والمحرك الرئيسي لها، بينما تتشعب وتتعقد النتائج المترتبة على تلك الحال لتساهم بنصيب وافر في مشكلات التعليم المتفاقمة. 

أجور المعلمين
بيد أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة ومعدلات التضخم المتزايدة يتّحدان مع ضعف أجور المعلمين لإعلاء قيمة وضرورة كسب الأموال، ولسان حالهم: "فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهى السلاح لمن أراد قتالا".

على مدار سنوات طوال حظي مبحث الدروس الخصوصية والتربّح من الطلاب بإسراف، بالتناول الأكاديمي والتغطية الإعلامية عبر القنوات المختلفة، وقد اتجهوا جميعاً إلى رصد الآثار السلبية للظاهرة والتحذير منها، واتفقوا على توصية الحكومة وصناع القرار بمحاربتها أو على الأقل الحد منها.
حتى رجال الدين خاضوا في القضية، مذكرين بكراهة/حُرمة "بيع العلم"! واعظين بأنه "قد يجمع المال غير آكله.. ويأكل المال غير من جمعه"، بينما لم يقابل ذلك على الأرض إلا بمزيد من التمكن والانتشار للدروس الخصوصية، حتى تأكد للمجتمع مجدداً أنه: "مفيش فايدة".

البحث عن بدائل

بخلاف الدعوة إلى التقتير والتذكير بأن القناعة كنز لا يفنى، لم ينل البحث عن بديل جاد جهداً يُذكر من قبل الجهات المعنية سوى بعض الزيادات الطفيفة في الأجور بين الفينة والأخرى، إلا أن نيران التضخم الاقتصادي سرعان ما تلتهمها فلا تُبقي لها أثراً.
ولما انصرف المعلمون إلى البحث عن بدائل تعوضهم ضعف أجورهم، خطفت الدروس الخصوصية الأنظار كأشهر وأخطر تلك البدائل، بينما لم يلقَ لجوء المعلمين إلى وظائف وأعمال أخرى إلى جانب عملهم اهتماماً يُذكر، نسمع ونعايش "معلم/سائق، بائع، سباك... إلخ".

لكن الإحصاءات لا توافينا بحصر لأعداد المعلمين المنخرطين في أعمال إضافية، كما نعاني عجزاً معلوماتياً حاداً في تقصي طبيعة الأعمال التي يلجؤون إليها ومدى تأثيرها سلباً أو إيجاباً على عملهم بالتعليم وتطورهم المهني، فهل يحالفنا التوفيق إن أقررنا بأن بعض الأعمال قد تزيد من تطور المعلم وربما تدعم تطوره المهن.

خصوصية مهنة "التدريس"
قد لا يضير بعض الأعمال أن تُؤدى بشكل "آلي" لا يرافقه الحماس للعمل ولا يترك فيه العامل بصمته الشخصية الخاصة، فيما يقبع التدريس على رأس المهن "الحية" التي تفسد وتتراجع عوائدها بدرجات بالغة إن غابت عنها الروح.

في واحد من إصدارات College board advocacy and policy center بعنوان "صوت الطلاب: ماذا يجعل المعلم عظيماً؟" اجتمع الطلاب على أن أفضل المعلمين هو ذاك المبدع القادر على إلهام الطلاب وتحفيزهم وإثارة خيالهم، الذي يحب مادته ويتمكن من ربطها بحياة الطلاب، يتمتع بالصبر والقدرة على إعادة الشرح مرة تلو الأخرى وبطرق تدريسية مختلفة للتأكد من نفاذ تأثيره إلى الطالب.

يتفق ذلك مع ما أقرته بيتريشيا ميللر، المعلمة التي انشغلت باللغة الإنجليزية تعلماً وتعليماً قرابة الخمسة عشر عاماً، ثم كتبت مقالها "عشر صفات للمعلم الجيد" الذي لاقى شهرة واسعة، خاصة بعدما أكدت أنه لم يكن نصائح تسديها كمعلمة، بل هو ما استخلصته من خبرتها كمتعلمة، وقد أكدت فيه "أحب المعلم المتحمس لعمله ولطلابه، المبدع، القادر على تحدي التلاميذ، المرح، الصبور، المشجع للتلاميذ والمحترم لهم.... إلخ".

لذلك: "فإن التطوير المستمر للتعليم لم يعد خياراً يمكن الاستغناء عنه، بل صار ضرورة تفرض نفسها. من أجل ذلك، لابد من النظر للمعلمين كلاعبين رئيسيين وليس كمنفذين لسياسات فوقية مفروضة عليهم. ما لن يتحقق إلا بتحرّي الوضوح التام بشأن تحديد القيم والقدرات التي يجب إكسابها ومتابعة تطورها لدى المعلمين بشكل "إجرائي" طوال فترة عملهم بالمهنة، لتتأكد كفاءة المعلم في مواكبة مهارات التعليم في القرن الواحد والعشرين. هذا بحسب الوارد في "مهنة التدريس في القرن الواحد والعشرين" الصادرة عن اليونسكو 2013.

تدريبات المعلمين
السؤال الذي يفرض نفسه الآن، لماذا لا تكون الإجابة في "الأكاديمية المهنية للمعلم" الكيان الذي أنشأ في مصر منذ العام 2008 ليُعنى بتحقيق التنمية المهنية للمعلمين من خلال تنظيم دورات تدريبية لهم؟ تُرى كيف يراها المعلمون؟ وإلى أي مدى يستفيدون من برامجها؟ جاءت إجابات المعلمين صادمة لحد بعيد، أكثر ما وصفت به تلك التدريبات أنها بعيدة عن الواقع وتنبني كلياً على أرضية أعلى كثيراً من تلك التي نقف عليها بالفعل.

يحكي أحدهم: "في أحد التدريبات التي تختص بتدريبنا على ما يعرف بـ"التعلم القائم على المشروعات"، كلفنا المدرب باستخدام المنهج الدراسي في تصميم "مشروع تعليمي"، ولما كان المشروع يتطلب أدوات غير موجودة في مدارسنا، فقد أعربنا عن عدم إمكانية تنفيذ أي مشروع بدون أدوات، فأجابنا المدرب بثبات: تخيل أنها موجودة! وبالفعل -خلال فترة التدريب- صممنا مشروعا من خيال افترضنا فيه أن لدينا مسرحا وأجهزة كمبيوتر موصولة بالإنترنت وطابعات ملونة، ثم أنجزنا "غاية التدريب" الحقيقية ورفعنا المشروع "الخيالي" على الموقع الإلكتروني المخصص لذلك، وانتهى التدريب وعدنا إلى مدارسنا لنعمل كما كنا نعمل قبل التدريب"!.

من هُنا كان الاهتمام بالتأهيل الجاد للمعلمين وبحث سبل استعادة روح الحماس المفقودة لديهم والسعي إلى تنمية قدرتهم على الإبداع في عملهم ومع طلابهم، وإزالة الحواجز الحائلة دون ذلك، ضرورة لابد أن تُطرح بالتوازي مع مباحث سبل تحسين أجور المعلمين ورفع مستوى معيشتهم، حيث إن النمط الحياتي الذي يعيشه المعلمون في مصر والذي ينهكهم لأبعد الحدود، لا يهدد فقط باستغلال الطلاب والتربح منهم، ولكنه يهدد فلسفة التعليم ويزعزع جذوره فيجعله صرحاً هلامياً قائماً على الفراغ ومؤديا إليه.


المساهمون