إحداثيات المصالحة الفلسطينية

20 مايو 2014

مسيرة فلسطينية في غزة لدعم المصالحة (إبريل 2014 getty)

+ الخط -
كانت المصالحة بين حماس وفتح تبدو، أحياناً، كما لو أنّها شأن داخليّ محض، وكان ذلك مدعاةً - لدى الفلسطينيّين - لاتّهامهما بالعبث في الوحدة الوطنيّة، وعدم الاكتراث بما يمليه الظرف الفلسطينيّ الصعب عليهما من التزامات وضوابط. لكنّ الحقيقة هي أنّ الاعتبارات الخارجيّة (الإقليميّة والدوليّة) كانت أقوى وأبلغ تأثيراً على المصالحة من كلّ الاعتبارات الداخليّة، لأنّ إسرائيل وأميركا ومصر والأردن وسوريّة وإيران والسعوديّة وتركيّا، على الأقلّ، كانت لها مصالح مباشرة في تفعيل المصالحة أو تعطيلها. وذلك يعني، إذن، أنّ حركة حماس وحركة فتح كانتا مجرّد بيدقين صغيرين في شطرنج دوليّ، ولم يكن مسموحاً لصراعهما بأن يمتدّ أو ينحسر، إلاّ ضمن قوانين لعبة دوليّة أكبر منهما بكثير. وفي غير مرّة، كانت أميركا وإسرائيل تعلنان، بكلّ صراحة، أنّ التصالح مع "حماس" تصالح مع الإرهاب، وأنّه يتعارض مع عمليّة السلام المتعثّرة، ويضعف موقف فتح، لا في تفاوضها مع إسرائيل، بل في تناقضها مع حماس؛ وكان ذلك سرعان ما يؤدّي إلى تعطيل المصالحة استجابة لرغبة إسرائيل المقدّسة، وتجاهلاً لرغبة الفلسطينيّين الملحّة في إتمامها.
لقد حلمت إسرائيل، كثيراً، بصراعٍ بديل يصرف الفلسطينيّين عن الصراع معها، لأنّ سلام أوسلو المخاتل لم يصلح للحيلولة دون اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية الّتي أقضّت مضاجع الإسرائيليّين. وهذا بالضبط هو ما دفع إسرائيل إلى التغاضي عن دخول حركتي حماس والجهاد الإسلاميّ إلى (حظيرة أوسلو)، وانخراط "حماس" في تنافس بائس مع فتح وفصائل منظّمة التحرير الأخرى على وهم السلطة. كانت النتيجة أن فازت حماس في الانتخابات البلديّة والنيابيّة الّتي جرت سنة 2006، واضطرّ محمود عبّاس إلى تكليف إسماعيل هنيّة بتشكيل الحكومة، فيما تحوّلت فتح إلى معارضة مكلومة وعدوانيّة.
آنذاك، صرّح محمّد دحلان بأنّ من العار على فتح المشاركة في حكومة تقودها حماس؛ وسرعان ما تحوّلت علاقة التنافس إلى احتقان، ثمّ إلى صراع مسلّح، ثمّ إلى انشقاق كامل تمثّل بانفصال غزّة عن الضفّة سنة 2007. هكذا صار صراع الفلسطينيّ مع ذاته بديلاً مثاليًاً لصراعه مع العدوّ، وأدّى ذلك إلى حدوث بلبلة، وتشوّهات خطيرة، في صورة العمل الوطنيّ الفلسطينيّ، فلا فتح حقّقت شيئاً في خيارها التفاوضيّ مع إسرائيل، ولا حماس حقّقت شيئاً في خيارها المقاوم، ولا الشعب الفلسطينيّ عاد يميّز بين ما تقترفه حماس وفتح بحقّه من خطايا، وما ترتكبه إسرائيل ضدّه من جرائم. ولم يكن الصراع البديل مع الذات يرمي، فقط، إلى تأجيل الصراع مع إسرائيل، بل كان يرمي إلى تفكيكه، وتعطيل آليّاته، وزحزحته باتّجاهات أخرى، حيث لا يظلّ سؤال (المقاومة) السؤال الوحيد الذي يتمحور حوله الصراع، ولا تظلّ (إسرائيل) الطرف الوحيد الذي ينبغي للفلسطينيّ (الوحيد وغير المتّحد) أن يتصارع معه.

لقد استولت فتح على السلطة في الضفّة بعد عام واحد من حكم "حماس"، فيما احتفظت حماس بسلطتها في غزّة، ولم تعد خلافاتهما القديمة السبب المباشر في صراعهما بعد أن علق كلّ منهما في فخّ (السلطة). وبسبب تحالف حماس مع حزب الله وإيران، ألصقت بها شبهة التواطؤ مع الإرهاب، وكان يراد من وراء ذلك ترحيل "حماس" إلى خانة الإرهاب، وإسقاط صفة المقاومة عنها، ليتحوّل الصراع معها إلى شكل من أشكال محاربة الإرهاب. وقد لعب نظام حسني مبارك دوراً كبيراً في الضغط على "حماس"، من أجل دفعها إلى التخلّي عن المقاومة؛ ونجح - أكثر من مرّة - في إلزامها بالامتناع عن قصف المستوطنات الإسرائيليّة بالصواريخ الّتي سمّاها محمود عبّاس بالصواريخ العبثيّة. لكنّ إسرائيل كانت تبادر، دائماً، إلى خرق الاتّفاقات، كأنّما لتذكّر الفلسطينيّين بأنّ قرار الحرب والسلام بيدها هي وحدها، وبأنّهم ليسوا شركاء لها لا في الحرب ولا في السلام.
كان تعطيل المصالحة، في نظر حماس، مرتبطاً بأجندة إسرائيليّة وأميركيّة. أمّا فتح، فكانت ترى أنّه مرتبط بأجندة إيرانيّة، وفي الحالين، فإنّ الطرف الفلسطينيّ كان يبدو، طيلة الوقت، عاجزاً عن تحقيق رغبته في المصالحة، حين تصطدم برغبة الآخر الإسرائيليّ، أو الأميركيّ، أو الإيرانيّ، في تعطيلها. لكنّ الأمر يبدو مختلفاً في الآونة الأخيرة، فالفلسطينيّون يصرّون على المصالحة، والنظام المصريّ يشجّعهم، ويعد بفتح معبر رفح بشكل دائم، وتلك مكافأة ما كانت حماس لتحلم بها من قبل؛ وإسرائيل غير جادّة في رفضها المصالحة كما كانت طيلة الأعوام الثمانية السابقة، بدليل أنّها سمحت لوفد فتح باستخدام معبر إيرز في الدخول إلى غزّة والخروج منها، وهو ما لم تكن تسمح به من قبل.
كلّ ذلك يعني أنّ ثمّة تواطؤاً ما لتحقيق المصالحة، بحيث تبدو كأنّها استجابة لرغبة الفلسطينيّين الملحّة، فيما هي استجابة لرغبات آخرين. المصالحة ستؤدّي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط خالية تماماً من السياسيّين! تلك خطوة ضروريّة وحاسمة لفكّ الارتباط بين (المقاومة) و(السلطة)، ولإغراق الفلسطينيّين في البحث عن وهم الاستقرار الذي يحقّقه وهم الدولة، بدلاً من المكابدات والويلات التي ظلّوا يجنونها طيلة ستّ وستّين سنة، بسبب المقاومة. إنّها خطوة حاسمة لتهجير الفلسطينيّين من تاريخهم.                      
            
       
 
3EB1E10F-A857-4544-8A47-AF6FE85B9960
زهير أبو شايب

شاعر وكاتب من فلسطين. مواليد 1958، له من المجموعات الشعرية "دفتر الأحوال والمقامات" و"ظل الليل"، و"سيرة العشب"، وغيرها. ومن الكتب "ثمرة الجوز القاسية". فاز بجائزة مؤسسة محمود درويش.