إثيوبيا وإريتريا... عودة عصافير الخريف

23 يوليو 2018

في استقبال طائرة إثيوبية في مطار أسمرة (18/7/2018/فرانس برس)

+ الخط -
أجمل ما يغشى شرق السودان المتاخم للحدود الإريترية الإثيوبية في موسم الخريف عصافير جميلة زاهية الألوان وشجية الصوت. وأجمل ما يمكن أن تحمله ذاكرة الطفولة والصبا لكل سوداني عاش في ربوع تلك المدن الحدودية صوت الناي الإثيوبي الذي تنثره الإذاعة الإثيوبية كأجمل ما تكون الموسيقى. ثم جاء زمان انقطع فيه حبل الوصال، وأصبحت إريتريا مشغولةً بحرب مع الجارة إثيوبيا، فيأتي صدى دوي المدافع عاليا من الهضبة الإثيوبية. 
عاد اللحن الشجي في الأيام الفائتة يتدفق بين أديس أبابا وأسمرة، بعد غياب استمر عقدين. شيء لا يصدّق مشهد الاستقبال الحار لحشود كبيرة من الإثيوبيين للرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يحملون علمي البلدين بيد واحدة. فقد طوت زيارة رئيس وزراء إثيوبيا، أحمد أبيي، لأسمرة بعد 22 عاما صفحة الخصام، وأثارت دهشة العالم. ثم عاد أفورقي ليزور أديس أبابا التي طال غيابه عنها عقودا بعمر النضال الإريتري من أجل الاستقلال. وفي لحظة صفاء، أعلن البلدان انتهاء حالة الحرب التي علقت بأجواء البلدين، وليلقي الرئيس أفورقي ربما أكثر خطبه المفعمة بالعاطفة من داخل القصر الوطني في أديس أبابا "أقول من الآن.. ساذج من يعتقد أن شعبي البلدين منفصلان". كلمات يقابلها أحمد أبيي بالدفء نفسه، إذ قال إن ما يجري أمام عينيه لا يصدق، ولا يجد الكلمات المعبرة عن المشهد، ثم يرد عليه أفورقي "شكرا لكم على هذا الحب الحقيقي الذي لمسناه".

خطوةٌ شجاعة تذكّر بلحظة سقوط حائط برلين. لقد أعلنا رسميا انتهاء حالة الحرب، وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين، ثم إعادة فتح السفارة الإريترية في أديس ابابا، والتي ظلت مغلقة منذ عام 1998. وعادت الحرارة إلى الاتصالات الهاتفية المتوقفة بين البلدين لأول مرة منذ عقود. يجتمع شمل الأسر والأصدقاء عبر الهاتف، في انتظار اجتماع الشمل الحقيقي بالاستئناف الكامل للحركة الجوية والبرية بين البلدين.
وتعتبر إثيوبيا ثاني أكبر دول القارة الأفريقية تعدادا للسكان (105 ملايين نسمة بعد نيجيريا وقبل مصر)، فيما يبلغ عدد سكان إريتريا خمسة ملايين نسمة. وتشهد إثيوبيا أفضل سنواتها، وتنفذ خطة تنمية طموحة، وتحقق معدلات نمو مرتفعة، تراوحت سنويا منذ عام 2012 وحتى 2018 بين 8% إلى 10%. ولمواجهة التحديات التي تنتظره داخليا وإقليميا، فقد أقدم أحمد أبيي، وهو بين أصغر القادة الأفارقة (41 عاما)، على كسر كل الحواجز التقليدية، فنزل إلى الناس، واستمع لمطالبهم، واعتذر للفرقاء السياسيين عن العنف والاعتقال والتعذيب، وأعلن رفع حالة الطوارئ التي فرضت للحد من تظاهرات المعارضين، وأعاد بسط الحريات، وفتح الإنترنت أمام الجميع. ثم سجل زيارة نادرة لزعيم إثيوبي إلى القاهرة، والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ليخفف من حدّة التوتر السياسي مع مصر بشأن قضية سد النهضة. ولكن تنتظر أحمد أبيي مواجهات داخلية مهمة، خصوصا ما يتعلق بإعلانه في 4 يونيو/ حزيران الماضي عن القبول بنتائج اللجنة الدولية المكلفة بالنظر في الخلاف الحدودي مع إريتريا، وهو موقف مختلف تماما عن مواقف كل سابقيه من رؤساء الحكومات الرافضة لقرار اللجنة التي تشكلت منذ اندلاع الخلاف عام 1998، وهذا ما يقوده إلى مواجهة محتملة مع الجيل القديم داخل حزبه الحاكم. ويرى بعضهم خطوات أحمد أبيي تعبيرا عن المشاعر الحقيقية للناس العاديين ومطالبهم، وخصوصا الشباب، لكنه رفع بها من سقف توقعات الناس وآمالهم. ويستدعي ذلك، بالتالي، الاستمرار على نهج الإصلاح والإصغاء لصوت الشارع والمعارضين، لوضع خريطة طريق أكثر فعاليةً، لمواصلة الخطوات التي تم قطعها اقتصاديا وسياسيا في إثيوبيا. وفوق ذلك كله، كما يرى كثيرون، أن يسرع بتفكيك البنية الأساسية، وإعادة تحديثها، وهي التي يقوم عليها دولاب العمل الحكومي والسياسي العتيق، لمواكبة التحديث الجاري.
وعلى صعيد سياسي آخر، سوف يتخلص البلدان من المعارضة المحتضنة هنا وهناك، خصوصا إثيوبيا التي سوف تتخلص من المعارضة القوية التي ظلت تحتضنها إريتريا، وتتخذ لها قواعد عسكرية تهاجم منها إثيوبيا.
وفي ما يتعلق بإريتريا، فإن خطوة الرئيس أسياس أفورقي الشجاعة سوف تترتب عليها خطوات أخرى، فالدولة التي نالت استقلالها من إثيوبيا في عام 1993 استهلكت كثيرا من قواها في حالة الحرب التي طال أمدها مع إثيوبيا. ومن شأن إعلان أفورقي دخول البلدين في مرحلة للتكامل الحقيقي، وفتح الموانئ للبضائع الإثيوبية، أن يعزّز كثيرا مساعي التنمية الاقتصادية في إريتريا، وتمنح، في الوقت نفسه، دفعة كبيرة لعجلة التنمية في الجارة إثيوبيا. وستجني إريتريا من هذا الحراك فوائد اقتصادية جمّة، وانتعاش قطاعات واسعة، تأثرت كثيرا من القطيعة بين البلدين. وستجني إريتريا مكاسب كبيرة من العائدات المالية المتوقعة من استخدام إثيوبيا للموانئ الإريترية في مصوع وعصب، إضافة إلى إعادة الحياة والانتعاش الاقتصادي والاجتماعي إلى 
أهم مدينتين ساحليتين في إريتريا. وهذا يعني توفير فرص عمل كثيرة لآلاف الشباب الإريتري، ويقود إلى انتعاش التجارة الحدودية بين البلدين، وإعادة الروح إلى القرى والبلدات الحدودية الإريترية مع إثيوبيا. وبالنسبة لأسياس أفورقي، فإن هذه التطورات تحمل تحدّيا حقيقيا على صعيد بسط الحريات والتخفيف من القبضة الحديدية التي حكم بها البلاد، بحجة الحفاظ على الأمن القومي للبلاد.
وأخيرا، هذا النجاح تقف خلفه جهود دولية متعدّدة، وخصوصا من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وحثهما المستمر للجانبين على حل خلافاتهما. وفي خطوة ذات معنى عميق، طار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى أديس أبابا، ساعات عقب صدور البيان المشترك، ليعلن أنه يرى أن العقوبات الدولية على إريتريا ربما ترفع قريبا. حضر الرئيسان، أحمد أبيي وأفورقي، أول حفل غنائي جمع بين مطربين من البلدين، وبحضور جماهيري غفير فاق 25 ألف شخص، غنوا الأغنيات الشجيّة التي لطالما تدفقت من الهضبة الإثيوبية في زمان جميل.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.