غير أن اسمه ارتبط باسم أكثر رواياته شهرة، وإن لم تكن أكثرها أهمية من الناحية الفنية، وهي رواية "الأم" وفيها تظهر شخصية بافل فلاسوف الذي يمكن اعتباره من أكثر الشخصيات الروائية التي أثّرت بعمق فيمن قرأوا غوركي.
أظن أن غوركي الذي قُرئ بتلك الحماسة النوعية يعكس إلى حد ما طبيعة المرحلة التاريخية في العالم العربي. لقد كانت تلك هي مرحلة الأمل إذا جاز لنا أن نعبّر عن ذلك بهذه المفردة، ربما يمكن القول إنها تمثل مرحلة نضالية في ضمير ووجدان الملايين من العرب الذين كانوا يأملون أن تتحقق آمالهم في التحرّر من إرث الاستعمار الأجنبي وأشكال الاستغلال والقهر المحليين في آن واحد.
وإذا كانت هذه المفردة تشير إلى القوة الإنسانية التي تستند إلى الأمل كي تتابع مسيرتها (كانت الجموع العربية تعتقد أنها مسيرة ظافرة) فإن الكاتب هو الذي عمّم في الوجدان العربي أيضاً نزعة موازية، يمكن القول إنها، توازن، أو تحدُّ من احتمال تطرّف وانحراف البشر عن مسارهم الأخلاقي في حال الحديث عن القوة فقط. وهي مقولة الضعف البشري الذي يشكّل في وحدته مع القوة الكيان الكلّي لوجود الكائن الحي عامة.
وبعيداً عمّا إذا كانت الفكرة قد نجمت عن ابتعاد غوركي عن فلسفة نيتشه الذي كان يدين له بالولاء الفكري، فقد تغلغلت فكرة القوة الإنسانية في الثقافة العربية عامة كي تلهم الجماهير أنها قادرة على إحداث التغيير في حياتها، فيما تسللت فكرة الضعف البشري إلى الأدب الروائي والقصصي. يمكن تتبع الفكرة جيداً في روايات حنا مينه الأكثر تأثراً وإعجاباً بمكسيم غوركي من بين الروائيين العرب. وفي قصص سعيد حورانية أيضاً.
ولم تكن فكرة الضعف تزعزع الفكرة الأخرى عن القوة الفاعلة، ذلك أن القوة الإنسانية، بحسب غوركي هي قوة خيّرة تسعى إلى مجد الإنسان، وتحرّره من عوامل الفناء والموت واللؤم والشر.
ليس لدى الجيل العربي الشاب اليوم سوى اسم: "مكسيم" الذي سمَّى به كثير من الآباء العرب أبناءهم. ذلك الاسم الذي كان يمثّل بالنسبة لأولئك الآباء بطولة الأمل والكفاح من أجل الحرية والعدالة المفقودتين من عالمهم.
واختفى غوركي اليوم من واجهات المكتبات العامة، واستبدلت مكتبة الترجمة في الثقافة العربية به أسماء أدبية وفكرية كثيرة، من الشرق والغرب. والأخطر من ذلك أنه يكاد يتحوّل إلى كاتبٍ متخفٍ، حيث تقبع مؤلفاته على رفوف المكتبات الخاصة يكاد يتلفها الغبار.
غير أن الأخطر من هذا كله أن كاتب الأمل، المؤمن أن قوة البناء كامنة في كل إنسان، يكاد يتلاشى وراء الضربات اللئيمة التي يوجهّها للبشرية كلّها أعداؤه من زارعي الخراب.