04 نوفمبر 2024
أين التطبيع في "أم هارون"؟
بالضبط، في أيٍّ من حلقاته الثلاثين، أوحى مسلسل "أم هارون" الخليجي بدعوةٍ إلى تطبيع العرب مع إسرائيل؟ أين جاء على "مظلومية" العرب اليهود في بلدانهم؟ كيف اشتمل على "أفكار" يعمل الإسرائيليون على تمريرها في المجتمعات العربية منذ عقود؟ ما هي "الحقائق التاريخية" التي "يشوّهها" المسلسل؟ أليس احتفاء معلقين ورسميين إسرائيليين بعرض المسلسل للجمهور العربي دليلا على خطورته؟.. هذه بعض أسئلةٍ تجدك معنيّا بها بعد مشاهدتك الحلقات الثلاثين، وقد تناثر الحكي عن ذلك التطبيع وتلك المظلومية (و... إلخ) في هجماتٍ واسعةٍ على المسلسل قبل عرضه، وفي الأيام الأولى لبث حلقاته (خفّت تاليا، ثم انعدمت إلى حد ما!). والقول عندي إن "أم هارون" يستحقّ هجماتٍ أكثر، ولكن بسبب إيقاعه العام الذي يُحدِث الملل، وخراريف فيه قليلة الإقناع و"تستعبط" المشاهد، وتفاصيل تتابعت فيه بلا اتّساق، عدا عن سخافة تصويره القسّ في الحي الخليجي التقليدي لا ينشغل إلا بتحويل المسلمين مسيحيين (ثم يفشل؟!). أما تلك الاتهامات فلا شيء منها لوحظ في أيّ من حلقات هذا العمل الدرامي. ولا يحمِل صاحب هذه الكلمات السلّم بالعرض، عندما يكتب هنا إن "أم هارون" يناصر الفلسطينيين في حقوقهم، وفي نضالهم، بل يعترض على إقامة دولة إسرائيل التي "يُفاجئك" بأنها غير صالحةٍ لعيش يهود متحمّسين لها، فكأنه "يُزاود" على الجميع في نبذها (!)، وهي التي يتحوّل عرسٌ في المسلسل يوم إعلان قيامها إلى مأتم. أما الكلام عن مظلومياتٍ تعرّض لها العرب اليهود فغير صحيح، وإنما ظهرت فيه شخصياتٌ تتوطّن فيها ثقافة الكراهية تجاه اليهود، كما في بعض هؤلاء تجاه المسلمين، وهذا واقعي.
ومن أعاجيب معلقين عرب، جهدوا في لعن المسلسل، أنهم طربوا لمقالٍ في "يديعوت أحرونوت"، لرئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة تل أبيب، فيه إن مسلسل أم هارون "يركّز على معاناة عائلةٍ يهوديةٍ عاشت في الكويت في أربعينيات القرن الماضي، ويشدّد على تعرّضها للملاحقة، لأنها تعتنق الديانة اليهودية، ويهدف إلى إبراز المظلومية اليهودية، والتدليل على أنه ليس الفلسطيني فقط الذي تعرّض للظلم والملاحقة". وهذا كله كلام فارغ، وأبسط رد عليه أن وقائع العمل لا تجري في الكويت. والأغرب أن الكاتب يكذب أكثر، أن "المسلسل زعم إن جاليةً كبيرةً قد عاشت في الكويت، فيما مجموعاتٌ صغيرة من اليهود عاشت في دول الخليج". وليس وحده هذا يكتب من عنديّاته، فقد فعل مثله عشرات المعلقين العرب ضمّنوا "أم هارون" ما ليس فيه. وللتوضيح لهؤلاء، فردٌ من العائلة اليهودية المتحدّث عنها يتبنّى أفكارا صهيونية، ويتآمر على "الفريج" (الحي الخليجي المتخيّل)، بتفجيراتٍ، ويسرق والدَ زوجته ليتبرّع للحركة الصهيونية، وعندما "يهاجر" إلى إسرائيل يلقاها على غير ما تصوّرها فيعود، لتعتقله السلطة في البلد الخليجي (المتخيّل) لاتصاله بالعدو، ثم تنفيه (عجيب!)، وليس في هذا كله مظلومية أو ملاحقة.
استوحى كاتبا المسلسل، البحرينيان الأخوان محمد وعبد الحليم شمس، شخصية الممرّضة (والقابلة) اليهودية أم هارون (صارت مسلمة وتقرأ القرآن، ولم يحفل ناقدو المسلسل بصفتها هذه)، من شخصية قابلةٍ يهوديةٍ عاشت في الثلاثينيات والأربعينيات في بلدهما. كما استوحيا مظاهرة الانتصار لفلسطين وشعبها والمقاومين فيها (نعم، في المسلسل لمن لم يشاهده) من أنشطةٍ كهذه جرت في تلك الأعوام في البحرين. وعندما يشتري تاجرٌ في المسلسل لوحةً رسم الحاج أمين الحسيني، ليكون ثمنها تبرّعا لفلسطين (في مزادٍ في الفريج في المسلسل)، فإن المشهد مستوحى من مزادٍ في مهرجان "أسبوع فلسطين" في المنامة في 1947، لمّا انتهت اللوحة إلى التاجر يوسف عبيدلي بـ 300 روبية (30 دينارا بحرينيا)، وكانت أول لوحة تشكيلية تُباع في البحرين. ولمّا أخطأ الكاتبان في مشهد إذاعة الراديو (المذياع بالفصحى) بيانا عن "أرض إسرائيل" (هل هي لغة البيان نفسه؟)، فإنهما أصابا في مشهدٍ آخر جاء فيه الراديو نفسُه على مظاهرات فلسطين، وأصابا أيضا في تقريع أم هارون الحاخام داود على إقامة دولة لليهود في وطن شعب آخر.
لا يغفل الكلام أعلاه (وغيرُه مثلُه) عن مسلسلٍ متواضعٍ فنيا (مع تقدير أداء ممثلات وممثلين فيه)، عن مقاصد سياسية ربما أريدت من إنتاجه وتصويره في الإمارات وبثه على فضائية سعودية، مقاصد لا تتعلق بيهود الخليج في الأربعينيات، وإنما برسائل إلى إسرائيل في العشرية الثانية في الألفية الثالثة. هذا كلامٌ مطروح، والنقاش فيه حلال، أما تقويل "أم هارون" ما لم يقله، ومن دون مشاهدته، فمن شواهد كثيرة على عطبٍ فادحٍ في ثقافةٍ وشعبوياتٍ عربيةٍ شائعة.
استوحى كاتبا المسلسل، البحرينيان الأخوان محمد وعبد الحليم شمس، شخصية الممرّضة (والقابلة) اليهودية أم هارون (صارت مسلمة وتقرأ القرآن، ولم يحفل ناقدو المسلسل بصفتها هذه)، من شخصية قابلةٍ يهوديةٍ عاشت في الثلاثينيات والأربعينيات في بلدهما. كما استوحيا مظاهرة الانتصار لفلسطين وشعبها والمقاومين فيها (نعم، في المسلسل لمن لم يشاهده) من أنشطةٍ كهذه جرت في تلك الأعوام في البحرين. وعندما يشتري تاجرٌ في المسلسل لوحةً رسم الحاج أمين الحسيني، ليكون ثمنها تبرّعا لفلسطين (في مزادٍ في الفريج في المسلسل)، فإن المشهد مستوحى من مزادٍ في مهرجان "أسبوع فلسطين" في المنامة في 1947، لمّا انتهت اللوحة إلى التاجر يوسف عبيدلي بـ 300 روبية (30 دينارا بحرينيا)، وكانت أول لوحة تشكيلية تُباع في البحرين. ولمّا أخطأ الكاتبان في مشهد إذاعة الراديو (المذياع بالفصحى) بيانا عن "أرض إسرائيل" (هل هي لغة البيان نفسه؟)، فإنهما أصابا في مشهدٍ آخر جاء فيه الراديو نفسُه على مظاهرات فلسطين، وأصابا أيضا في تقريع أم هارون الحاخام داود على إقامة دولة لليهود في وطن شعب آخر.
لا يغفل الكلام أعلاه (وغيرُه مثلُه) عن مسلسلٍ متواضعٍ فنيا (مع تقدير أداء ممثلات وممثلين فيه)، عن مقاصد سياسية ربما أريدت من إنتاجه وتصويره في الإمارات وبثه على فضائية سعودية، مقاصد لا تتعلق بيهود الخليج في الأربعينيات، وإنما برسائل إلى إسرائيل في العشرية الثانية في الألفية الثالثة. هذا كلامٌ مطروح، والنقاش فيه حلال، أما تقويل "أم هارون" ما لم يقله، ومن دون مشاهدته، فمن شواهد كثيرة على عطبٍ فادحٍ في ثقافةٍ وشعبوياتٍ عربيةٍ شائعة.