ما الذي يجعل شاعراً في صقع ما يشعر برابطة قوية مع شاعر في صقع آخر؟ بل ما الذي يجعل كاتباً حيّاً يتعلّق بمؤلِّف ميت منذ قرون؟ وما الذي يجعله يأسف لموت كاتب أو فنّان أو سجنه، رغم أنه لم تربطهما أية علاقة أو لم يلتقيا أصلاً إلا عبر كتاب أو لوحة أو قطعة موسيقية؟
ما الذي يجعل شاعراً إيطالياً يقطع المسافات ليلتقي شاعراً أرجنتينياً في مقهى في باريس مثلاً، أو أن تُقبّل شاعرة فرنسية شاعراً عربياً عند محطة قطار؟ أو يشدّ أحدهم الرحال في بداياته الأدبية ليلتقط صورة له فحسب مع تمثال السياب أو بيسوّا؟ أو أن يتقمص كاتب غر شخصية كازانتزاكس أو كيركيجارد؟ ولماذا ينتابنا ذلك النحيب كطفل فقد أمّه حين يموت شاعر فجأة أو يمرض روائي بمرض عُضال أو يُسجن كاتب قصة قصيرة؟
أليس غريباً أن نحزن لموت سقراط مسموماً، وصلب الحلاج وقتل السهروردي واغتيال لوركا وانتحار يسينين ومايكوفسكي وكواباتا وميشيما وخليل حاوي وغرق فيرجينيا وولف وموت فروغ فرخزاد في حادث سير ومصرع بوشكين وليرمونتوف في مبارزة غير عادلة! وأسفنا كذلك على حياة قصيرة لرامبو ورياض الصالح الحسين ونوفاليس وطرفة بن العبد وغيرهم من الشعراء الذين ماتوا صغاراً كقصيدة قصيرة؟
ما هذه العلاقة التي تتجاوز المشاعر الإنسانية وروابط الدم والبلدان والحدود؟ أهذا ما يمكن تسميته بـ "الضمير الأدبي" هو ما يواشج هذه العلاقة ويجعلها تسمو فوق كل المشاعر بل وتسمح بالغفران أحياناً؟ولماذا عد البعض حتى الأنبياء "فلاسفة إنسانيون" كبوذا والمسيح وليسوا أنبياء فحسب في صورة معكوسة لأوهام المريدين الذين يميلون إلى "عبادة الشخصية"، ولماذا قارب البعض شخصية النبي في فهمهم للنفس البشرية كدوستويفسكي والمعرّي وجبران
بل ولماذا نحتت من أسماء مؤلّفين حالات نفسية كـ الدون كيخوتية والزوربوية والسادية والمازوخية مثلاً، أو مدارس أدبية وفنية كالرومانسية والوجودية والسوريالية والواقعية السحرية وغيرها من كتاباتهم وعوالمهم، والتي وجدت لها مكاناً في الحياة العامة؟
كل هذا وأكثر هو من صنيع ثلّة مجانين بالجمال حلموا بتغيير العالم وإذ بالعالم يُغيّر أرواحهم إلى الأبد فشقّت مجرى النهر الإنساني برمته؟
أليست الكلمة منذ رسوم الكهوف إلى القلم وما بعده خلقاً وتكويناً موازياً للخلق والتكوين وسبراً للغور الإنساني في الإنسان، أليست الكلمة من أقسمت بها الكتب المقدسة والتي تشدّ من أزرنا نحن الغرباء على هذه الأرض وتجعلنا نتضامن مع أشباهنا بل وأندادنا في الإلهام والوحي والكتابة في جميع مراحل التاريخ، عبر رحلة روحية لأقلية هائلة تتنكب الدرب الطويل الذاهب فيه لا عودة منه.
هذه "الأقلية الهائلة" التي قلّما يلتفت إليها العالم هي من غيّرت هذا العالم ببطء وأناة وإيثار مقابل سرعة ووحشية وأنانية السيف والرصاصة والمشنقة والسجون والطائرات التي بلا طيّار و"البراميل المتفجرة" وكل ما هو غير إنساني في الإنسان.
إنها الكلمة.. الأصل والمبتدأ والخاتمة.
إنها الكلمة.. الصراع الأزلي والأبدي بين قوى "الجمال" ضد قوى "القبح".
فطوبى لك أيتها "الأقلية الهائلة".
* شاعر من عُمان