"الشعب المصري لا يجد من يحنو عليه" تلك الحقيقة التي ما زالت قائمة، ولا يستطيع المخادعون والمخدوعون إنكارها على أي حال.. لذلك فإن من السذاجة أن يظن أحد أن المعركة في مصر قد وضعت أوزارها، رغم كل الأذى الذي لحق بالبلاد على مدار سنوات فشل الثورة الوليدة.
والحقيقة تقول أيضا إن الطرف الوحيد الذي حنا على المصريين، بلا دافع إلا الأمل في مستقبل أفضل لهم.. هم أبناء يناير الذين خرجوا يهتفون بالكرامة والحرية والعيش الكريم، وواجهوا في سبيل ذلك آلة القتل التي انطلقت تحصد من أرواحهم ولم تتوقف، الذين كانوا في المجمل هم الأبناء الأوفياء لهذا الوطن خلال عقوده الأخيرة.
ذلك، رغم أنهم من البداية لم يملكوا غير عاطفتهم ودمائهم، ولم يستطيعوا تطوير أدواتهم على مدى أربع سنوات، بل استسلموا لعوامل التفتيت والتعرية التي أكلت ما وهبهم الميدان إياه.. إلا أنهم، مع ذلك، لا يزالون يحملون بقية البذرة الطيبة التي يمكن الرهان عليها قبل فوات الأوان.
والحقيقة تقول أيضا إن الرفقاء الفرقاء من أبناء يناير، إذا لم يدركوا ما تبقى من الوقت والفرصة الضئيلة، ويعالجوا أخطاء الماضي، ويغادروا مقاعد الهواة، وينتقلوا لمستوى المعركة الحقيقية على مستقبل الوطن ويتحملوا مسؤوليتهم التاريخية إزاء ثورة بدأوها وتركوها تأكل من دماء من أغروهم بها من الحالمين.. فإنهم سيختارون لأنفسهم، وإلى الأبد، أن يعيشوا يتامى لا أب لهم، بعد أن تذبح أجيال النكسة والخنوع ما تبقى من روح ثورتهم.
وكل ذلك رهين بأن يؤمن المخلصون من نشطاء هذا الجيل أنهم يتحملون مسؤولية خاصة عن أبناء جيلهم الذين آمنوا بهذه الثورة وتفاعلوا معها وتحركوا في إطارها من كل التيارات، وأن هذا الجيل في الغالب الأعم، كان ارتباطه وإيمانه بالثورة وحرصه على إنجاحها وتضحيته في سبيل ذلك خالصا نقيا، لم يؤثر في ذلك انتماؤه لفصيل معين أو اقتناعه بطرح سياسي أو أيدولوجي خاص.
وإن هذا الجيل هو الذي صنع ملاحم الثورة وخط السطور الواضحة في مسيرتها.. فأيام التحرير الأولى ورفض معارك الاستقطاب وجمعة 27 مايو/أيار بدلالتها القوية في مسيرة الثورة، واعتصام يوليو ومحمد محمود، وغيرها من الأيام الفاصلة في مسار الثورة وصولا لانتخابات الرئاسة، خاصة مرحلة الإعادة فيها.. كل هذه المواقف صنعتها تضحيات هذا الجيل وطريقة تعاطيه المختلفة مع الأحداث في مصر، بأريحية وعدم تعصب ووضوح بوصلة طالما بحث عمن يستثمره ويوجهه.
هذا الجيل الذي لم يكن يتمايز فيه شباب اليسار عن شباب 6 أبريل عن شباب الإخوان أو المقتنعون بالبرادعي أو حمدين أو أبو الفتوح أو أبو إسماعيل.. وذلك رغم تباين مواقف الأطر التي ينتمي إليها هؤلاء الشباب رسميا، وإنما جنوح أبناء هذا الجيل من الاتجاهات المختلفة يمينا أو يسارا نحو اليأس أو التطرف في المواقف وردود الأفعال، هو ناتج بالدرجة الأولى عن السياق السياسي والبيئة السيئة التي أوحلت فيها الثورة منذ مراحلها المتقدمة.
وإن المكسب الأكبر الذي خرجنا به فعليا هو "هذا الجيل" وهؤلاء الشباب.. وأن التراجع أو الاستسلام لشعور فوات الفرصة أو الانهزام في هذه الجولة من الثورة، يهدد بخسارتنا لهذا الجيل، ويعرض البلد لعقود ممتدة من القمع والبطش والفساد.. بلا أمل.
شئنا أم أبينا، فإن طبقة عريضة في هذا الجيل تؤمن أن لها حلما مذبوحا في شوارع مصر وثأرا لا ترى من المروءة التنازل عنه أو التفريط فيه وترك هذا البلد الظالم أهله، كما يروج البعض، أو حتى تأجيله لجولة قادمة أو بجيل لاحق.
إن أهم ما في الأمر القناعة بأن المسؤولية لا تسقط عن كواهلنا رغم كل التطورات والجروح.. ورغم افتقاد القدرة أو الثقة.. فثمة واقع لن يغيره إحباطنا أو تبدل قناعاتنا.. واقع تشكل للأسف بأرواح بذلت وتبذل ووطن سيبقى منهكا ومنتهكا ما لم نؤمن أن خلاصه بأيدينا، وأننا بحاجة لبذل جهد حقيقي للقيام بمسؤوليتنا تجاهه.. والتضحية في سبيل ذلك أهون وأيسر من الحياة ما بقي من العمر بنفوس مكسورة وأرواح تائهة، بين مشردين في بلاد الغير أو حبيسي الوهن واحتقار النفس في شوارعنا المسلوبة.. لتبقى مصر في مقاعد الترقب، تنتظر ميلادا جديدا لحركة تغيير حقيقية، لا ندري وقتها هل ستتعلم من أخطاء سوابقها أم لا.. إذ لم نتعلم نحن من أخطاء من سبقونا من الخمسينيات حتى يناير.
على أبناء يناير ألا يفقدوا إيمانهم بأنفسهم، وألا يؤخروا خطوتهم في تنظيم أنفسهم والاستعداد لإكمال ثورتهم أكثر من ذلك.
(مصر)