شهدت مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية في شرق الفرات السوري في الآونة الأخيرة تكثيفاً ملحوظاً في حوادث التفجير وعمليات الاغتيال التي غالباً ما تُسجّل تحت اسم "مجهولين"، خصوصاً في مدينة القامشلي. وقد حصدت آخر التفجيرات في المدينة يوم الاثنين الماضي، الناجمة عن سيارات ودراجات مفخخة، العديد من القتلى وعشرات الجرحى. في السياق، كشفت قوات "الأسايش" التابعة للإدارة الذاتية الكردية في بيان عن إلقائه القبض على منفّذي التفجيرات. وأضافت أنه من خلال البحث ومراجعة كاميرات المراقبة، تمكنت من التعرف إلى عناصر الخلية التي نفذت العملية، فقامت بمداهمة أُلقي القبض خلالها على منفذ العملية المدعو أحمد جاسم المصطفى، وعناصر آخرين. وتبيّن أن عناصر الخلية تتلقى أوامرها بشكل مباشر من شخص يسكن في تركيا، غير أن ناشطين أكراداً شككوا في صحة هذا الإعلان. وقبل تفجيرات الاثنين بساعات قُتل الكاهن إبراهيم حنا بيدو الملقب بالأب هوسيب بيدو، وهو كاهن رعية القديس مار يوسف للأرمن الكاثوليك في القامشلي، ووالده حنا إبراهيم بيدو، بعد استهدافهما من قبل مسلحين مجهولين في أثناء توجههما للإشراف على ترميم كنيسة الأرمن الكاثوليك في مدينة دير الزور. وتبنّى تنظيم "داعش" عملية الاغتيال.
في سياق التوترات الأمنية في المدينة، قُتل مدني يوم السبت الماضي وأصيب عنصران من قوات "الأسايش" في دوار حارة الطي، شارع الوحدة، نتيجة إلقاء قنبلة يدوية من قبل شخصين يستقلّان دراجة نارية، وأُلقي القبض عليهما. وتبيّن حسب مصادر من "الأسايش" أنهما ينتميان لمليشيا "الدفاع الوطني" التابعة للنظام. وسبق أن قُتل ثلاثة مقاتلين من قوات "الصناديد" المنضوية ضمن "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، بعد هجوم من قبل مجهولين استهدف حاجزاً لهم في مفرق النعيمية على الطريق السياسي القريب من ناحية تل كوجر في ريف القامشلي. كذلك وقع تفجير باستخدام سيارة مفخخة في 18 أغسطس/ آب الماضي في القامشلي أسفر عن مقتل شخص وإصابة اثنين بجروح.
ولوحظ أن أغلب هذه التفجيرات، وعلى غرار الحوادث السابقة من تفجيرات بسيارات صغيرة مفخخة أو دراجات نارية أو شاحنات كبيرة أو قنابل صوتية وعبوات ناسفة، جرت في أحياء ذات غالبية كردية أو مسيحية. كذلك وقعت كل التفجيرات داخل المربع الأمني للنظام أو في المناطق المحيطة به (أي حي الوسطى ذو الغالبية المسيحية) أو في أحياء ذات غالبية كردية. وأغلب التفجيرات وقعت في أماكن مزدحمة بهدف إيقاع خسائر بشرية كبيرة، وإيصال رسائل سياسية، مثلما حدث في تفجير الحي الغربي ذي الغالبية الكردية، الذي تسبّب في مقتل أكثر من 50 شخصاً وإصابة نحو 170 آخرين، وتدمير عدد كبير من المنازل، في يوليو/ تموز 2016.
ومن المؤكد أنه يتمّ استغلال هذه التفجيرات لبثّ روح الكراهية عبر توجيه الاتهامات الجاهزة إلى مكوّن ما بالوقوف خلف هذه التفجيرات، وربما يكون هذا أحد أهداف التفجيرات، أي بث الفرقة بين المكوّنات المحلية للسكان، الذين بات أغلبهم مقتنعاً بأن الوضع الأمني لن يستقرّ وأن المدينة والمنطقة ستبقيان في فوضى وفلتان أمني. وهو ما دفع عشرات الآلاف منهم للنزوح إلى أماكن أخرى داخل البلاد واللجوء خارجها. ومنهم من توجه إلى دمشق وكثيرون لجأوا إلى إقليم كردستان العراق، حيث أُقيمت مخيمات عديدة.
منذ بداية الثورة السورية عام 2011 شهدت القامشلي حالات اغتيال وخطف لناشطين سياسيين وإعلاميين ومثقفين، وغالباً ما يتم توجيه الاتهام للنظام السوري، ولحزب العمال الكردستاني وأجهزته الأمنية في الدرجة الثانية، من دون استبعاد تنظيم "داعش" وخلاياها. بالنسبة للإدارة الذاتية و"قسد" وأنصارها، فإن المتهم الرئيسي هو تركيا، خصوصاً بعد عملياتها العسكرية ودعمها لفصائل "الجيش الوطني السوري". أما حكومة النظام السوري، فتلقي اللوم على أجهزة الإدارة الذاتية ومؤسساتها، في ظل غياب الدولة. ومن الواضح أن حجم ونوعية هذه التفجيرات وتوزعها وطرق تنفيذها يحتاج إلى إمكانات وتقنيات وكوادر بشرية مدربة تدريباً عالياً، ويمكن الاستدلال على من يقف خلفها، من خلال قراءة الرسائل المحتملة للقوى التي من مصلحتها بث الفوضى الأمنية في تلك المنطقة. النظام يقول بأن لا استقرار في حال غيابه ويجب محاربة الإرهاب بالدرجة الأولى، لذا هو الأكثر استفادة من هذه التفجيرات. أما الإدارة الذاتية التي تقول إن خطر "داعش" وخلاياه النائمة والتنظيمات الإرهابية ما زال قائماً ولا بد من محاربته، فتحاول بدورها توظيف هذه العمليات سياسياً لصالحها.
مع العلم أن التفجيرات التي حصلت أخيراً وقعت في النقطة نفسها التي كانت تنطلق منها التظاهرات والاحتجاجات السلمية في شارع جامع قاسمو في الحي الغربي من القامشلي، عام 2011. كما أن هذه الانفجارات عادة ما تحدث بالتزامن مع متغير سياسي أو عسكري ما، مثل العمليات العسكرية التركية التي انطلقت في الشهر الماضي في شرق الفرات، أو بالتزامن مع بدء اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف السويسرية.
وتضمّ القامشلي خليطاً متنوعاً دينياً، فضلاً عن وجود مؤيدين لحزب البعث وموالين للنظام السوري، ومعظمهم من المستفيدين سابقاً من الامتيازات والمناصب. كما تضمّ المدينة أحزاباً قومية كردية، تنقسم بدورها إلى قسمين، الأول هو الإدارة الذاتية وأحزابها مثل حزب الاتحاد الديمقراطي، والطرف الآخر المجلس الوطني الكردي، وهو شبه محظور من قبل الإدارة الذاتية والنظام كونه جزءاً من الائتلاف الوطني السوري والمعارضة. كذلك تضمّ فصائل إسلامية، خصوصاً بين العشائر.