31 أكتوبر 2024
أيام أردنية عصيبة
(1)
أيام عصيبة يعيشها المواطنون الأردنيون، بعد الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة أخيرا، بعد أن استقر الرأي على خيار رفع الأسعار على نحو جنوني، يوحي بأن متخذ القرار لا يرى أمامه شعبا، بل مجرد "مستهلكين" خانعين مستعدين لأكل ستين صفعة على غفلة، كما يقول المثل السائر.
كما يبدو، لا توجد وصفة سحرية للخروج من المأزق الاقتصادي إلا جيب المواطن. حسناً، المواطن الأردني صبور ويتحمل، ولديه حسٌّ عالٍ جدا بالمسؤولية، وهو مستعد أن يعيش على نصف رغيف خبز في اليوم، ولكنه يريد أن يطمئن أن الأعباء الوطنية موزّعة في حملها على الجميع، لا على كتفه فقط. يريد أن يشعر بأن التقشف وشظف العيش موزّع على الكل. الفقير يريد أن ينسى تماما أنه مسؤول عن زيادة ثروة الغني، ويريد أيضا أن يشعر بأن كرامته موفورة، وحريته مصانة من أي اعتداء. نصف رغيف في اليوم يكفي، فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، الحرية والكرامة إن توفرا يجعلان حبة القمح حقلا من سنابل. هذا ليس شعرا، وتلك معادلة ليست مستحيلة. القرارات التي اتخذتها الحكومة زلزلتنا جميعا، بلا استثناء، وكان عليها أن تزامنها بقراراتٍ موازيةٍ على غير صعيد، تعدل من مزاج الناس على جبهات أخرى. الأردنيون بحاجةٍ لقرارات جذرية وكبرى باتجاه بعث الراحة في نفوسهم، لتعويضهم عن معاناتهم الاقتصادية، قرارات ستضاف إلى تلك القائمة، ذات مغزى حقيقي، لا رمزيا. قد يكون العفو العام جزءا من هذه المنظومة، ولكن بعد تخطي سلبياته المعروفة التي قد تضيّع بعض الحقوق. وقد يكون الإصلاح السياسي الحقيقي إجراء مباغتا نافعا في مثل هذه الحالة، لإعادة بناء الجبهة الداخلية، ورصّ الصفوف، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية. ولا يقولنّ أحد إن الوقت قد فات على مثل هذه الإجراءات، فنحن نعيش وسط دراما اقتصادية كبرى، تحتاج رؤية تاريخية. أنت لا تستطيع أن تسلب الناس كل شيء، أعطهم شيئا ذا قيمة، وخذ منهم ما تشاء.
(2)
ومع هذا، ثمّة طرق مواجهة أخرى لتلك الإجراءات الحكومية التي تكاد أن تطاول كل شيء، حتى رغيف الخبز. هذه الطرق متعلقة، بشكل أساس، بالالتفاف على سعر الرغيف المرتفع جدا، بصناعته في البيت. وحكاية الرغيف حكاية، لي معها تجربة طريفة، فحتى وصولي سنة تقديم امتحان التوجيهي (الثانوية العامة) لم يدخل بيتنا رغيف خبز واحد من السوق، إلا على سبيل التذوق أو المصادفة، فقد كانت الوالدة، يرحمها الله، تخبز في البيت كل يومين أو ثلاثة ما يكفي لأسبوع، بل أذكر أننا حينما كنا نأكل "خبز السوق"، كما كنا نسميه، كان بعضنا "يغمّس" خبز البيت به، باعتباره نوعا آخر من المأكولات، من باب ندرته واختلاف طعمه !.
ومثل بيتنا، كانت بقية البيوت، فلم نعرف شراء "خبز السوق" إلا حينما بدأت نساؤنا يخفن على جمال أظافرهن من أن تتكسر أو "تتلوث!" بالعجين. وحينما أعود بذاكرتي إلى أيام خبز البيت، أشعر بحنين جارف لرائحة الخبز الساخن، وهو يخرج للتو من "بيت النار".
وبيت النار هذا كان الفرن العربي البلدي، ذا الصناعة المحلية التي يتقنها حدّادو بلادنا، وثمنه في متناول الجميع، أو "طنجرة الكهرباء" أو الطنجرة الفلسطينية كما يسميها بعضهم. والطريقتان كانتا تنتجان خبزا عالي الجودة، خصوصا إذا تم خلط الطحين الأبيض بطحين القمح الأسمر، إذ يكون المنتج لذيذا وصحيا، وقابلا للخزن أياما، من دون أن يصيبه التلف. وبالطبع كان من النادر جدا، بل ربما من المستحيل، أن يزيد من "عجنة الأسبوع" شيء، فكل ما يُخبز كان يُؤكل، وكان من الحرام المغلظ أن نرمي ولو كسرة خبز في الزبالة، بل لطالما شاهدت كبارنا في السن في بلادنا، وهم ينحنون على كسرة خبز ضلّت طريقها على طرف الشارع، فيقبّلونها ويمرّرونها على رؤوسهم، ثم يضعونها برفقٍ في مكان آمن بعيد عن تزاحم الأقدام، وهم يقولون إن هذه "نعمة" والنعم لا تُرمى، ومن يرمي النعمة حُرم منها.
(3)
الرد العملي على رفع سعر الخبز عدم شرائه، وصناعته في البيت. وهذه طريقة حضارية في المقاومة، وقانونية ومعترف بها لدى كل الشعوب. على المواطن أن يقاطع السلعة التي لا يستطيع شراءها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا أسلوب نافع جدا ومجرّب في مقاومة ارتفاع الأسعار، وإعادة الرشد إلى المسؤول الذي اعتاد على أن يمد يده إلى جيب المواطن، كلما احتاج لسد عجز الموازنة. وربما هذا الشعور هو ما جعل رئيس الوزراء الأردني، هاني الملقي، يعيش حالة إنكار، حينما أصر على عدم وجود "أردنيين مسخّمين" في حوار مع نائب في البرلمان، وهو ما جعل وسم "#أردنيين_مسخّمين" الأكثر تداولا في "تويتر".
أيام عصيبة يعيشها المواطنون الأردنيون، بعد الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة أخيرا، بعد أن استقر الرأي على خيار رفع الأسعار على نحو جنوني، يوحي بأن متخذ القرار لا يرى أمامه شعبا، بل مجرد "مستهلكين" خانعين مستعدين لأكل ستين صفعة على غفلة، كما يقول المثل السائر.
كما يبدو، لا توجد وصفة سحرية للخروج من المأزق الاقتصادي إلا جيب المواطن. حسناً، المواطن الأردني صبور ويتحمل، ولديه حسٌّ عالٍ جدا بالمسؤولية، وهو مستعد أن يعيش على نصف رغيف خبز في اليوم، ولكنه يريد أن يطمئن أن الأعباء الوطنية موزّعة في حملها على الجميع، لا على كتفه فقط. يريد أن يشعر بأن التقشف وشظف العيش موزّع على الكل. الفقير يريد أن ينسى تماما أنه مسؤول عن زيادة ثروة الغني، ويريد أيضا أن يشعر بأن كرامته موفورة، وحريته مصانة من أي اعتداء. نصف رغيف في اليوم يكفي، فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، الحرية والكرامة إن توفرا يجعلان حبة القمح حقلا من سنابل. هذا ليس شعرا، وتلك معادلة ليست مستحيلة. القرارات التي اتخذتها الحكومة زلزلتنا جميعا، بلا استثناء، وكان عليها أن تزامنها بقراراتٍ موازيةٍ على غير صعيد، تعدل من مزاج الناس على جبهات أخرى. الأردنيون بحاجةٍ لقرارات جذرية وكبرى باتجاه بعث الراحة في نفوسهم، لتعويضهم عن معاناتهم الاقتصادية، قرارات ستضاف إلى تلك القائمة، ذات مغزى حقيقي، لا رمزيا. قد يكون العفو العام جزءا من هذه المنظومة، ولكن بعد تخطي سلبياته المعروفة التي قد تضيّع بعض الحقوق. وقد يكون الإصلاح السياسي الحقيقي إجراء مباغتا نافعا في مثل هذه الحالة، لإعادة بناء الجبهة الداخلية، ورصّ الصفوف، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية. ولا يقولنّ أحد إن الوقت قد فات على مثل هذه الإجراءات، فنحن نعيش وسط دراما اقتصادية كبرى، تحتاج رؤية تاريخية. أنت لا تستطيع أن تسلب الناس كل شيء، أعطهم شيئا ذا قيمة، وخذ منهم ما تشاء.
(2)
ومع هذا، ثمّة طرق مواجهة أخرى لتلك الإجراءات الحكومية التي تكاد أن تطاول كل شيء، حتى رغيف الخبز. هذه الطرق متعلقة، بشكل أساس، بالالتفاف على سعر الرغيف المرتفع جدا، بصناعته في البيت. وحكاية الرغيف حكاية، لي معها تجربة طريفة، فحتى وصولي سنة تقديم امتحان التوجيهي (الثانوية العامة) لم يدخل بيتنا رغيف خبز واحد من السوق، إلا على سبيل التذوق أو المصادفة، فقد كانت الوالدة، يرحمها الله، تخبز في البيت كل يومين أو ثلاثة ما يكفي لأسبوع، بل أذكر أننا حينما كنا نأكل "خبز السوق"، كما كنا نسميه، كان بعضنا "يغمّس" خبز البيت به، باعتباره نوعا آخر من المأكولات، من باب ندرته واختلاف طعمه !.
ومثل بيتنا، كانت بقية البيوت، فلم نعرف شراء "خبز السوق" إلا حينما بدأت نساؤنا يخفن على جمال أظافرهن من أن تتكسر أو "تتلوث!" بالعجين. وحينما أعود بذاكرتي إلى أيام خبز البيت، أشعر بحنين جارف لرائحة الخبز الساخن، وهو يخرج للتو من "بيت النار".
وبيت النار هذا كان الفرن العربي البلدي، ذا الصناعة المحلية التي يتقنها حدّادو بلادنا، وثمنه في متناول الجميع، أو "طنجرة الكهرباء" أو الطنجرة الفلسطينية كما يسميها بعضهم. والطريقتان كانتا تنتجان خبزا عالي الجودة، خصوصا إذا تم خلط الطحين الأبيض بطحين القمح الأسمر، إذ يكون المنتج لذيذا وصحيا، وقابلا للخزن أياما، من دون أن يصيبه التلف. وبالطبع كان من النادر جدا، بل ربما من المستحيل، أن يزيد من "عجنة الأسبوع" شيء، فكل ما يُخبز كان يُؤكل، وكان من الحرام المغلظ أن نرمي ولو كسرة خبز في الزبالة، بل لطالما شاهدت كبارنا في السن في بلادنا، وهم ينحنون على كسرة خبز ضلّت طريقها على طرف الشارع، فيقبّلونها ويمرّرونها على رؤوسهم، ثم يضعونها برفقٍ في مكان آمن بعيد عن تزاحم الأقدام، وهم يقولون إن هذه "نعمة" والنعم لا تُرمى، ومن يرمي النعمة حُرم منها.
(3)
الرد العملي على رفع سعر الخبز عدم شرائه، وصناعته في البيت. وهذه طريقة حضارية في المقاومة، وقانونية ومعترف بها لدى كل الشعوب. على المواطن أن يقاطع السلعة التي لا يستطيع شراءها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا أسلوب نافع جدا ومجرّب في مقاومة ارتفاع الأسعار، وإعادة الرشد إلى المسؤول الذي اعتاد على أن يمد يده إلى جيب المواطن، كلما احتاج لسد عجز الموازنة. وربما هذا الشعور هو ما جعل رئيس الوزراء الأردني، هاني الملقي، يعيش حالة إنكار، حينما أصر على عدم وجود "أردنيين مسخّمين" في حوار مع نائب في البرلمان، وهو ما جعل وسم "#أردنيين_مسخّمين" الأكثر تداولا في "تويتر".