أوهام الطريق الثالث

25 فبراير 2016
+ الخط -
كان ما يُعرف بـ "صراع التيارات" في السعودية قد أصبح مُملاً بالفعل قبل عشر سنوات، لكن محاولات البحث عن "طريقٍ ثالث" وقتها كانت جذّابة. مال كتابٌ وصحافيون كثيرون إلى الإعلان عن موقف "عدم الانحياز"، وقدّموا قراءات متهكّمة، ناقدة، أو ساخطة على المشهد. من المثير للاهتمام اليوم ملاحظة كيف تحولت هذه الحركة الثورية الصغيرة إلى جزء تقليدي أصيل من المشهد، فبقدر ما يحضر التياران الديني والعلماني، يحضر أيضاً "تيار عدم الانحياز"، الذي تبلور خطابه عبر السنوات في مجموعة من القوالب الجاهزة والجامدة (وربما المبتذلة)، والتي تحتاج، هي نفسها، إلى مراجعة ونقد، بل هي الأجدر بالمراجعة والنقد بما أنها تبحث عن طريق ثالث، لئلا يتحول "الطريق الثالث" بحدّ ذاتهِ إلى وهم.
أشهر قوالب الخطاب الباحث عن طريق ثالث هو وصف هذا الطريق على أنه "الوسطيّة"، على أساس أن التّوسط بين الطرفين هو الموقف الصائب. مشكلة هذا القالب أنه لا يتضمّن موقفاً نقدياً من هندسة الفضاء الاجتماعي على الإطلاق. إنهُ يقبلها كما هي، ويتحفظ فقط على التطرّف في هذا الجانب أو ذاك، ويعتقد أن الخير لا يتجاوز مسألة التوسّط بين مُتطرّفين، ويعبّر عن هذا الخير عبر سلسلة مواقف توفّق وتلفّق وتميل إلى هذا الجانب مرة، وإلى الآخر في المناسبة التالية، أو تكتفي بنقد تطرّف الجميع. البحث عن طريق ثالث عبر بوابة "الوسطية" يمكنهُ أن يكون وهماً، لأنهُ بحث عن مكان ضمن الهندسة الاجتماعية نفسها مع عجز عن تصوّر ترتيب مختلف للفضاء الاجتماعي. إنه موقفٌ لا يرى أية مشكلة جذرية في هذا الواقع، ولا في الأفكار، ويحصر الإشكال فقط في "التطرّف" في هذه الأفكار. ربما ابتُذلت كلمة "الوسطية"، تبعاً لمرحلة سابقة، وتناقص استخدامها في الخطاب، لكن نسبة كبيرة ممن يحاولون المشاركة في النقاش العامّ لا يزالون يفكّرون اليوم وفق هذا المنظور.
قالبٌ آخر من قوالب الخطاب الباحث عن طريق ثالث هو وصف الصراع إضعافاً للوحدة الوطنية وتمزيقا للُّحمة وتشتيتا للصف "في ظروف إقليمية صعبة ومواجهات خارجية مصيرية"، كما ردّد كثيرون، في الأسابيع الماضية، نقداً للانشغال بالقضايا الداخلية، على الرغم
من أن البلاد تخوض حرباً في الخارج. ومشكلة هذا القالب أنه يتصور الصراع خارجاً على الحالة الوطنية، بل نقيضاً لها، وهو ما يعني بالطبع أن "الحالة الوطنية"، في هذا القالب، تعني كبت الصراع الاجتماعي وتذويب جميع الخطابات الاجتماعية في الخطاب الحكومي، وتحديداً العسكري الذي يتحول إلى ذاتٍ كُبرى في مواجهةٍ مع "العدو". في هذا الخطاب، تُتنقد حالة الصراع من أجل تزكية حالة أسوأ منها بمراحل، وهي حالة "الشمولية"، وهذه المشكلة تكفي للاعتراض على تقديم هذا القالب، بوصفه "طريقاً ثالثاً".
قد يكون هذا القالب الأخير من قوالب "الطريق الثالث" أكثرها جذباً، وهو القالب الذي يتهكّم بصراع التيارات بوصفه "مسرحية"، لجذب الأنظار بعيداً عن قضايا معيشية أولية، لا خلاف عليها بين المواطنين. هذا القالب شديد الشبه بالقالب الشمولي السابق، مع اختلافين: أنه يروّج تحييد الصراع الداخلي لصالح قضايا داخلية أكثر أهمية وجذرية، وأنه لا يعتقد بوجود صراع حقيقي، بل مجرد "مسرحية مدبّرة" سياسياً لإلهاء المواطنين عن قضاياهم المصيرية. والمشكلة في هذا القالب أنهُ يُنتج تصوراً مختلاً للفضاء الاجتماعي، بوصفه مسرحاً للصراعات الصورية بين تيارات صورية، بينما يحتوي هذا الفضاء، في الواقع، على حقول مختلفة وتيارات متصارعة بالفعل، على الرغم من خضوعها جميعاً للهيمنة السياسية في مستوياتٍ مختلفة، وإنكار هذا الصراع هو شكلٌ من أشكال الرغبة في كبته، عوضاً عن تحليله بشكلٍ مختلف.
ما هو مهمّ، عند محاولة اقتراح طريقٍ ثالث، ألا يأتي منطلقاً من الضجر والعجز أمام واقع صراعٍ متكرّر وعديم الجدوى (بالنسبة لمن يراقبه من خارجه). الملل واستشعار العبثية وحدهما لا يكفيان كقاعدة للانطلاق نحو تصور اجتماعيّ مختلف، لأنك قد تملّ المشهد وعبثيته، لكنك تظلّ حبيس مقولاتهِ الأساسية، وعاجزاً عن فهمه بطريقة مختلفة ونقده على أساسٍ مغاير. كما أن استشعار درجةٍ من الغُربة أمام هذا الصراع لا يجب أن يتحوّل إلى باعثٍ على الرغبة في كبته أو نفيه خارج الحالة الوطنية، لأن حالة الصراع الاجتماعي أكثر طبيعية وأكثر صحّية من حالة الشمولية والوحدة، التي تكبت الصراع. من المهم إعادة طرح الأسئلة بطرقٍ أكثر جذرية حول هندسة الفضاء الاجتماعي في السعودية، وأدلجة الدولة، وعلاقة الحقل السياسي بالحقل الديني والحقل الثقافي، وحول قواعد الصراع ضمن هذه الحقول وبينها، وعلامَ تتصارع حقاً فيما وراء الصراع الظاهريّ.
@Emanma

دلالات
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع