13 فبراير 2022
أوهام "الإخوانوفوبيا" لدى النخبة التونسية
لا يبتعد مقال توفيق المديني "أوهام الفصل الإجرائي بين السياسي والدعوي" في "العربي الجديد" (19 مايو/أيار الجاري)، والذي عقب فيه علي مقال صاحب هذه السطور "إعادة تأسيس حركة النهضة التونسية"، شكلاً ومضموناً، عن موقف نخب تونسية كثيرة لا تزال تستبطن خوفاً مركزياً من التيارات الإسلامية، خصوصاً حركة النهضة. وهو موقف، وإن كان لا يخلو أحياناً من نقد جاد ومشروع لأطروحات "النهضة"، وغيرها من التيارات الإسلامية، إلا أنه يفعل ذلك، في أغلب الأحوال، من باب التشكيك والتعجيز، يصل أحياناً إلى درجة انعدام الثقة المطلقة فيما تطرحه هذه التيارات، لا لشيء سوى للاختلاف الأيدولوجي معها، وهو موقف لا يختلف كثيراً من موقف المستشرقين الغربيين الكلاسيكيين. ولكن، بلسان عربي.
لم يكن ما طرحه مقالنا "وهماً"، أو ترويجاً، أو حتى "تبنياً لأطروحة حركة النهضة"، كما يدّعي الكاتب، بقدر ما كان محاولةً لتفسير خلفيات قرار الفصل بين السياسي والديني وفهمها، وهو القرار الذي يعكس، كما أشرنا في مقالنا، درجةً من التحول في فكر "النهضة" وخطابها وممارستها. وهي محاولة مستمدة من متابعة كاتب هذه السطور، بحكم التخصص، تحولات الحركة وتطور مواقف قيادتها طيلة العقدين الأخيرين. وقد سجّل ذلك صراحةً المقال بالقول "ما نراه من تحولاتٍ في خطاب النهضة وممارستها ليس وليد اليوم، وإنما هو ثمرة سنوات من التحول التدريجي والبطيء والتدافع الداخلي". كذلك وضعنا ما يجري داخل "النهضة: ضمن السياقات المحلية والإقليمية والدولية، والتي تعكس قدراً واضحاً من البراغماتية والواقعية.
لم نفتش في نيات قيادات حركة النهضة، ولا نعتقد أن هذه وظيفة أي باحث رصين، يروم الفهم والتحليل والتدقيق، بعيداً عن التحيّز الأيديولوجي الذي يشوّه الموضوع، ويطمس الحقيقة. كما لا نميل إلى التشكيك في قرار الحركة، أخيراً، الفصل بين المجالين السياسي والدعوي، وذلك لمجرد الخلاف الفكري معها، وما إذا كان يعكس "تحولاً استراتيجياً" في فكر "النهضة" وممارستها أم مجرد "مناورة تكتيكية". فالواقع أن القرار سوف تكون له تداعيات كبيرة على الحركة ومستقبلها، وربما يؤدي إلى مشكلات داخلية، وهو ما سجّلناه في مقالنا المذكور، والذي لم يدّع، علي عكس ما قد يُفهم من مقال المديني، أن قرار الفصل الذي اتخذه مجلس شورى حركة النهضة "يمثل نصراً مبيناً للديمقراطية"، أو أنه "يحجب قضايا جوهرية وخطيرة"، يجب على الحركة مواجهتها. وإنما ما أشرنا إليه، بوضوح، أن القرار هو بمثابة خطوة جديدة للحركة قد "تمثل ميلاً جديداً" لها، وأنه، إذا ما نجح، قد يصبح "نموذجاً تقتدي به حركات أخرى في المنطقة".
من حق المديني، قطعاً، ومن حق غيره من المثقفين التونسيين، وكذلك العرب، أن يختلفوا مع حركة النهضة أيدولوجياً وفكرياً، كما حال كاتب هذه السطور، بل وأن يهاجموها سياسياً. ولكن، التزاماً بالحد الأدنى من التعاطي البحثي والأكاديمي مع الحركة، تكشف عدة أخطاء ومغالطات، يختلط فيها الإيديولوجي بالسياسي بالفكري، وهو ما يشوّها كظاهرة سوسيوسياسية جديرة بالدراسة والبحث. وقد وقع المديني في بعض هذه الأخطاء، هنا منها ثلاثة:
أولاً: الإصرار على اعتبار حركة النهضة امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين، وهو أمر ربما كان صحيحاً حتى ثلاثة عقود فاتت، لكنه أصبح الآن جزءاً من الماضي، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة. فمنذ نشأت الحركة، في منتصف السبعينيات في منطقة مرناق جنوب غرب العاصمة تونس، وكانت تحمل آنذاك اسم "الجماعة الإسلامية"، تحوّلت أفكار الحركة وتغيّر خطابها بشكل كبير، تجاوزت فيه أدبيات "الإخوان" (حسن البنا وسيد قطب وغيرهما)، واستبدلتها بكتاباتٍ أكثر تقدمية وانفتاحاً، ساهم في بلورتها الغنوشي بشكل كبير. أما تنظيمياً، فلا توجد علاقة بين جماعة الإخوان في مصر وحركة النهضة، وهو ما ينطبق على كثير، إن لم يكن كل، الفروع التي تنتمي للإخوان فكرياً وإيديولوجياً. وفي ظل حالة الفقر الفكري والجمود التنظيمي لإخوان مصر، لا يخلو إصرار بعض المثقفين التونسيين، والعرب، على الربط بين الأمرين، سوى محاولة لتشويه حركة النهضة أو على الأقل عدم الاعتراف بأن ثمة تغيّرات تشهدها الحركة. وهي نظرة "استشراقية" بامتياز، تفترض أن الحركات الإسلامية مجرد كتل صمّاء، لا يسري عليها قانون الزمن، من حيث التبدل والتغير.
ثانياً، وانطلاقاً من النقطة السابقة، تعاني كثير من الكتابات السطحية السريعة عن الحركات الإسلامية من فقر معرفي، وانحراف منهجي شديد، باتجاه فهم هذه الحركات، وهو ما يجعلها تستعيض عنه باكليشيهات جاهزة، يجري ترديدها من دون تفكيك أو محاولة إثبات. من هذه المقولات "التمكين" و"أسلمة الدولة"، وذلك على غرار ما جاء في مقال توفيق المديني. وهي مقولات، فضلاً عن أنها تعكس موقفاً هجومياً (إن لم يكن تشويهيا) تجاه الحركات الإسلامية، تفتقد الجدية والموضوعية. بل الأكثر من ذلك، أن الوضع في تونس ينفي، بأريحيّة، مثل هذه المقولات، فقد أصبح في حكم الثابت يقيناً (ولربما يحتاج بعضهم إلى إنعاش ذاكرته القصيرة بذلك) أن حركة النهضة لم تسع إلى "التمكين" أو "أسلمة الدولة" منذ سقوط بن علي. بل قامت بعكس ذلك تماماً، حيث سعت إلى التوافق والتقارب مع القوى السياسية الأخرى، ولم يكن ذلك، علي نحو ما دلت خبرة السنوات الخمس الماضية، "تكتيكاً"، وإنما استراتيجية تكاد تكون ثابتة، وهو ما تجسد في تجربة "الترويكا" التي حكمت البلاد في المرحلة الانتقالية. كذلك وافقت الحركة على تمرير دستور ليبرالي وعلماني، على الأقل من وجهة نظر إسلاميين كثيرين، يقّر "حرية العقيدة والضمير والممارسة الدينية أو عدمها"، على غرار ما يطالب به المديني. ومن يراجع تصريحات الشيخ راشد الغنوشي ومواقفه، طوال السنوات الخمس الماضية، سوف يكتشف، بسهولة، مدى إصراره على روح التوافق والاعتدال، بعيداً عن "رهاب" الأسلمة الذي يتهمه به كثيرون.
ثالثاً، لا يخلو خطاب النخب التي تدّعي الليبرالية والعلمانية، في تونس وغيرها، من نظرةٍ استعلائيةٍ تحمل حكماً قيمياً أو معيارياً على غيرها من القوى السياسية، وتميل إلى محاكمتها من خلاله. وهو ما فعله المديني في مقاله الذي يحدد فيه لحركة النهضة برنامجاً قيمياً ومعيارياً، يجب أن تقبل به، لكي يتم الاعتراف بها وقبولها في المجتمع. وهو بذلك لا يناقض فحسب كل قيم الليبرالية والديمقراطية التي تسمح بالتعدّدية الفكرية والأيدولوجية والسياسية، وإنما أيضاً يفرض وصايته على غيره من القوى والأحزاب، بالطريقة نفسها التي يقوم بها بعض الإسلاميين. أي أنه وقع فيما يحذر منه الآخرون. والأنكي أن الرجل يبدو غير مقتنع، على الإطلاق، بأن حركة النهضة تؤمن بالديمقراطية، أو أنها تمارسها فعلياً، على الرغم من الأدلة الكثيرة التي أصبحت واضحة وموثقة، والتي أشرنا إلى بعضها آنفاً. وهو موقف، كما قلنا، يعكس استعلاء قيمياً وأيدولوجياً على الأخرين، ولا يستند إلى أرضية منهجية موضوعية.
ما سبق ليس، بأي حال، دفاعاً عن حركة النهضة، أو انحيازاً لها، فأهلها أولى بذلك، كما أن كاتب السطور له كتاباتٌ كثيرة موثقة في نقد الإسلاميين، داخل مصر وخارجها. ولكن، ثمّة فرق كبير بين النقد الموضوعي للتيارات الإسلامية الذي يروم الفهم والتحليل والإصابة بمرض "الإخوانوفوبيا" الذي، إن لم يخف مآرب بعينها، فإنه يطمس الرؤية، ويعيق الفهم، ويشوّه الحقيقة.
لم يكن ما طرحه مقالنا "وهماً"، أو ترويجاً، أو حتى "تبنياً لأطروحة حركة النهضة"، كما يدّعي الكاتب، بقدر ما كان محاولةً لتفسير خلفيات قرار الفصل بين السياسي والديني وفهمها، وهو القرار الذي يعكس، كما أشرنا في مقالنا، درجةً من التحول في فكر "النهضة" وخطابها وممارستها. وهي محاولة مستمدة من متابعة كاتب هذه السطور، بحكم التخصص، تحولات الحركة وتطور مواقف قيادتها طيلة العقدين الأخيرين. وقد سجّل ذلك صراحةً المقال بالقول "ما نراه من تحولاتٍ في خطاب النهضة وممارستها ليس وليد اليوم، وإنما هو ثمرة سنوات من التحول التدريجي والبطيء والتدافع الداخلي". كذلك وضعنا ما يجري داخل "النهضة: ضمن السياقات المحلية والإقليمية والدولية، والتي تعكس قدراً واضحاً من البراغماتية والواقعية.
لم نفتش في نيات قيادات حركة النهضة، ولا نعتقد أن هذه وظيفة أي باحث رصين، يروم الفهم والتحليل والتدقيق، بعيداً عن التحيّز الأيديولوجي الذي يشوّه الموضوع، ويطمس الحقيقة. كما لا نميل إلى التشكيك في قرار الحركة، أخيراً، الفصل بين المجالين السياسي والدعوي، وذلك لمجرد الخلاف الفكري معها، وما إذا كان يعكس "تحولاً استراتيجياً" في فكر "النهضة" وممارستها أم مجرد "مناورة تكتيكية". فالواقع أن القرار سوف تكون له تداعيات كبيرة على الحركة ومستقبلها، وربما يؤدي إلى مشكلات داخلية، وهو ما سجّلناه في مقالنا المذكور، والذي لم يدّع، علي عكس ما قد يُفهم من مقال المديني، أن قرار الفصل الذي اتخذه مجلس شورى حركة النهضة "يمثل نصراً مبيناً للديمقراطية"، أو أنه "يحجب قضايا جوهرية وخطيرة"، يجب على الحركة مواجهتها. وإنما ما أشرنا إليه، بوضوح، أن القرار هو بمثابة خطوة جديدة للحركة قد "تمثل ميلاً جديداً" لها، وأنه، إذا ما نجح، قد يصبح "نموذجاً تقتدي به حركات أخرى في المنطقة".
من حق المديني، قطعاً، ومن حق غيره من المثقفين التونسيين، وكذلك العرب، أن يختلفوا مع حركة النهضة أيدولوجياً وفكرياً، كما حال كاتب هذه السطور، بل وأن يهاجموها سياسياً. ولكن، التزاماً بالحد الأدنى من التعاطي البحثي والأكاديمي مع الحركة، تكشف عدة أخطاء ومغالطات، يختلط فيها الإيديولوجي بالسياسي بالفكري، وهو ما يشوّها كظاهرة سوسيوسياسية جديرة بالدراسة والبحث. وقد وقع المديني في بعض هذه الأخطاء، هنا منها ثلاثة:
أولاً: الإصرار على اعتبار حركة النهضة امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين، وهو أمر ربما كان صحيحاً حتى ثلاثة عقود فاتت، لكنه أصبح الآن جزءاً من الماضي، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة. فمنذ نشأت الحركة، في منتصف السبعينيات في منطقة مرناق جنوب غرب العاصمة تونس، وكانت تحمل آنذاك اسم "الجماعة الإسلامية"، تحوّلت أفكار الحركة وتغيّر خطابها بشكل كبير، تجاوزت فيه أدبيات "الإخوان" (حسن البنا وسيد قطب وغيرهما)، واستبدلتها بكتاباتٍ أكثر تقدمية وانفتاحاً، ساهم في بلورتها الغنوشي بشكل كبير. أما تنظيمياً، فلا توجد علاقة بين جماعة الإخوان في مصر وحركة النهضة، وهو ما ينطبق على كثير، إن لم يكن كل، الفروع التي تنتمي للإخوان فكرياً وإيديولوجياً. وفي ظل حالة الفقر الفكري والجمود التنظيمي لإخوان مصر، لا يخلو إصرار بعض المثقفين التونسيين، والعرب، على الربط بين الأمرين، سوى محاولة لتشويه حركة النهضة أو على الأقل عدم الاعتراف بأن ثمة تغيّرات تشهدها الحركة. وهي نظرة "استشراقية" بامتياز، تفترض أن الحركات الإسلامية مجرد كتل صمّاء، لا يسري عليها قانون الزمن، من حيث التبدل والتغير.
ثانياً، وانطلاقاً من النقطة السابقة، تعاني كثير من الكتابات السطحية السريعة عن الحركات الإسلامية من فقر معرفي، وانحراف منهجي شديد، باتجاه فهم هذه الحركات، وهو ما يجعلها تستعيض عنه باكليشيهات جاهزة، يجري ترديدها من دون تفكيك أو محاولة إثبات. من هذه المقولات "التمكين" و"أسلمة الدولة"، وذلك على غرار ما جاء في مقال توفيق المديني. وهي مقولات، فضلاً عن أنها تعكس موقفاً هجومياً (إن لم يكن تشويهيا) تجاه الحركات الإسلامية، تفتقد الجدية والموضوعية. بل الأكثر من ذلك، أن الوضع في تونس ينفي، بأريحيّة، مثل هذه المقولات، فقد أصبح في حكم الثابت يقيناً (ولربما يحتاج بعضهم إلى إنعاش ذاكرته القصيرة بذلك) أن حركة النهضة لم تسع إلى "التمكين" أو "أسلمة الدولة" منذ سقوط بن علي. بل قامت بعكس ذلك تماماً، حيث سعت إلى التوافق والتقارب مع القوى السياسية الأخرى، ولم يكن ذلك، علي نحو ما دلت خبرة السنوات الخمس الماضية، "تكتيكاً"، وإنما استراتيجية تكاد تكون ثابتة، وهو ما تجسد في تجربة "الترويكا" التي حكمت البلاد في المرحلة الانتقالية. كذلك وافقت الحركة على تمرير دستور ليبرالي وعلماني، على الأقل من وجهة نظر إسلاميين كثيرين، يقّر "حرية العقيدة والضمير والممارسة الدينية أو عدمها"، على غرار ما يطالب به المديني. ومن يراجع تصريحات الشيخ راشد الغنوشي ومواقفه، طوال السنوات الخمس الماضية، سوف يكتشف، بسهولة، مدى إصراره على روح التوافق والاعتدال، بعيداً عن "رهاب" الأسلمة الذي يتهمه به كثيرون.
ثالثاً، لا يخلو خطاب النخب التي تدّعي الليبرالية والعلمانية، في تونس وغيرها، من نظرةٍ استعلائيةٍ تحمل حكماً قيمياً أو معيارياً على غيرها من القوى السياسية، وتميل إلى محاكمتها من خلاله. وهو ما فعله المديني في مقاله الذي يحدد فيه لحركة النهضة برنامجاً قيمياً ومعيارياً، يجب أن تقبل به، لكي يتم الاعتراف بها وقبولها في المجتمع. وهو بذلك لا يناقض فحسب كل قيم الليبرالية والديمقراطية التي تسمح بالتعدّدية الفكرية والأيدولوجية والسياسية، وإنما أيضاً يفرض وصايته على غيره من القوى والأحزاب، بالطريقة نفسها التي يقوم بها بعض الإسلاميين. أي أنه وقع فيما يحذر منه الآخرون. والأنكي أن الرجل يبدو غير مقتنع، على الإطلاق، بأن حركة النهضة تؤمن بالديمقراطية، أو أنها تمارسها فعلياً، على الرغم من الأدلة الكثيرة التي أصبحت واضحة وموثقة، والتي أشرنا إلى بعضها آنفاً. وهو موقف، كما قلنا، يعكس استعلاء قيمياً وأيدولوجياً على الأخرين، ولا يستند إلى أرضية منهجية موضوعية.
ما سبق ليس، بأي حال، دفاعاً عن حركة النهضة، أو انحيازاً لها، فأهلها أولى بذلك، كما أن كاتب السطور له كتاباتٌ كثيرة موثقة في نقد الإسلاميين، داخل مصر وخارجها. ولكن، ثمّة فرق كبير بين النقد الموضوعي للتيارات الإسلامية الذي يروم الفهم والتحليل والإصابة بمرض "الإخوانوفوبيا" الذي، إن لم يخف مآرب بعينها، فإنه يطمس الرؤية، ويعيق الفهم، ويشوّه الحقيقة.