أوليا جلبي..ابن بطوطة التركي في رحلته إلى القدس وغزة

30 نوفمبر 2019
رسم لمسجد عمر بالقدس في 1753(Getty)
+ الخط -

زار الرحالة العثماني الكبير أوليا جلبي المتوفى سنة 1090 هجرية/ 1679 ميلادية، فلسطين أكثر من مرة ودوَّن وقائع زياراته في رحلته الشهيرة سياحة نامة سي، ذات الأجزاء الكثيرة، والتي تعد واحدة من أكبر وأشهر الرحلات في العالم الإسلامي خلال حقبة ازدهار الإمبراطورية العثمانية.

اسمه محمد ظلي أفندي ويسميه بعض المستشرقين ابن بطوطة التركي. ولد في إسطنبول عام 1020 هجرية/ 1611 ميلادية من أبوين أبخازيين من القفقاس. كان جده الثاني حاملاً للواء السلطان محمد الثاني فاتح القسطنطينية، ووالده درويش كان جواهري البلاط السلطاني (قويومجي باشي) وكان يصحب السلطان سليمان القانوني في حملاته العسكرية. أما أمه فكانت أُختاً للصدر الأعظم.

كان أوليا جلبي ذا ميل للدراسات العلمية ولذلك فقد عمل (حافظاً) في مسجد آيا صوفيا، وهناك سنحت له فرصة التعرف بالسلطان مراد الرابع الذي أعجب بصوته في تلاوة القرآن فرفعه إلى قصره وجعله من ندمائه.

لكن حياة القصور لم ترق له، فغادرها في رحلة استمرت خمسين عاما زار خلالها معظم مناطق العالم الإسلامي وأوروبا، مرة بصفة إمام، ومرة وحده. وخلال أسفاره رافق أهم الجيوش العثمانية إلى الشرق والغرب، واستطاع أن يرى أكثر بلاد الأناضول والروم والقفقاس، ووصل جزيرة كريت، وجال في إيران وفيينا وألمانيا والسويد، وهولندا وبولندا وروسيا وهنغاريا وبلغاريا واليونان والبوسنة وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية ومصر وغيرها.

ويُعد مصنّف أوليا جلبي من أهم الوثائق التي تصف العصر الذي عاش فيه. وهو يزودنا بتفصيلات غنية عن الأقطار التي زارها وعادات شعوبها وأحوالها الفكرية والاجتماعية ونظم حكوماتها ومعاهدها ومنشآتها وآثارها القديمة التي أولاها قدراً كبيراً من اهتمامه وخص منها بعنايته ـ شأنه شأن الهروي ـ المساجد والمزارات والأضرحة. ويتضمن مصنفه حكايات كثيرة عن كرامات الأولياء والأنبياء، ومنها حكايات تتميز بصبغة أسطورية واضحة بسبب تدينه الشديد وتصوفه في عصر انتشر فيه التصوف وعمّ الأقطار الإسلامية.

وقد أجمل موردتمان (1852 ـ 1932) الواسع الاطلاع على الثقافة التركية القول في أوليا جلبي حين قال: "لقد كان أوليا جلبي كاتباً خصب الخيال مع جنوح واضح إلى الغريب وإلى المخاطر، وهو يفضل الأسطورة على الوقائع التاريخية الجافة ويلذ له الدخول في المبالغات بحيث يبلغ في ذلك حد الإسفاف. فإذا ما وضعنا في حسابنا هذه النقائص فإنه يجب الاعتراف من جهةٍ أخرى بأن كتابه ذخيرة لا تنفد في جميع ما يمس الحياة الاجتماعية والأدب الشعبي والجغرافيا وأنه يعرض كل هذا في أسلوب يمتاز بالبساطة والحيوية معاً".

زار أوليا جلبي بلاد الشام مرتين الأولى عام 1058 هجرية/ 1648 ميلادية، صحبة الوزير مرتضى باشا الكرجي المعروف بالسلحدار، والمعيّن واليا على الشام. وأخبار هذه الرحلة في المجلد الثالث من الكتاب. وأما الثانية فكانت في عام 1082 هجرية/ 1671 ميلادية في طريقه إلى الحج وأخبارها في المجلد التاسع.


في صفد والجليل

وفد جلبي إلى القدس قادماً من صيدا على الساحل الشامي، فسار جنوباً محاذاة البحر ثم انعطف صاعداً إلى المنطقة الجبلية فزار يارون والجش والسوق العتيق وقرية ميرون وعين الزيتون وهي تقع على بعد 12 كم إلى الشمال الغربي من صفد على الطريق التاريخي الذي يصلها بعكا والساحل.

ثم زار مدينة صفد التي وصفها بشكل شبه مفصل، فقال عن جامع الملك الظاهر الذي يسمى أيضاً بالجامع الأحمر: إنه كانت تغطي المسجد من الخارج قبة رصاصية، كما غطى الرصاص رأس المئذنة التي تشبه الأبراج في ضخامتها وعلوها، وقد اكتسب هذا الجامع اسمه من حجارته الحمراء المصقولة، وفوق المحراب كتبت سورة العرش بخط جميل. كما تحدث عن جامع الصواوين فقال: "وفي محلة الصواوين جامع الشيخ عيسى وصاحبه مدفون في ساحته".

ثم زار مقام "أبو قميص" وبحيرة المنية (طبرية) وقلعتها وقام بزيارات للمشاهد مختلفة في منطقة صفد وطبرية. وبعدئذٍ واصل سفره إلى قلعة عين التجار (اليوم خان التجار وخان السوق) فجبل طابور فاللجون فقرية نَيْن (في مرج ابن عامر) فقرية زرعين (في المرج نفسه). ثم زار جنين وقباطية وعرابة والمغارة والفندقومية وسبسطية. ومن هناك اتجه إلى عكا والناقورة، ثم عاد إلى دير شرف وبيت ايبا وجنين مرة أخرى.

ونجد بعد ذلك في رحلته المحطات التالية: نابلس التي يصف فيها الجامع الكبير حيث يقول إن محرابه الحالي "كان مدخل كنيسة من الناحية الشرقية، وعلى جانبي المدخل يوجد ثمانية أعمدة ممشوقة من الرخام يرتكز عليها قوس الجامع الذي هو آية في فن البناء، ويبلغ طول الجامع 300 خطوة وعرضه 100 خطوة، ومجموع ما فيه من الأعمدة 55 عموداً. ومحرابه واسع جداً ومنبره قديم". ثم زار قرى عسكر، وبلاطة، وعورتا، وحوارة، وبيتا، وعقربة، والزاوية، وخان اللبن (عقبة اللبن)، وسنجل، والبيرة، والنبي شمويل (صمويل)، وعين الظاهر بيبرس (قرب قرية العنب "أبو غوش") والشيخ جراح بظاهر القدس، فالقدس.

ويقول أوليا جلبي: "عندما قام سليم بتخليص البلاد من أيدي المماليك كان بشالق فلسطين يتألف من السناجق التالية: غزة وجبل عجلون واللجون ونابلس والقدس. وهذه السناجق يديرها الباشا. وهناك خمسة سناجق أخرى تحت حكم زعماء البادية يديرونها كأنها ملك خاص لهم، ولكنهم يدينون في الوقت نفسه بالولاء للسلطان. وفي هذه الولاية بعض القرى المخصصة للأوقاف إلا أن معظم القرى تتبع أرباب الإقطاعات من الزعماء والتيماريين، وهم قادة الفرسان الإقطاعيين. وهناك أيضاً قائد قوات السنجق. وقائد الانكشارية".


فتح السلطان سليم للقدس

وحول دخول السلطان سليم إلى القدس يقول جلبي: "عندما خرجت القدس من حوزة المماليك الشراكسة، خرج كل العلماء والصالحين لملاقاة سليم شاه سنة 922 هجرية (1516م). وسلموه مفاتيح المسجد الأقصى وقبة صخرة الله، وسجد سليم وهتف قائلاً: "الحمد لله أنا الآن صاحب مسجد القبلة الأولى" ثم وزع الهدايا على جميع الأعيان وأعفاهم من الضرائب الباهظة وثبتهم في وظائفهم، ثم أدار الوثائق العمرية التي كانت في حوزة رهبان الروم والفرنجة أمام وجهه وعينيه وأعطاهم خطاً شريفاً أكد للرهبان فيه ما جاء في تلك الوثائق، أي أنهم كانوا معفيين من أداء الضرائب وأن كنيسة أنسطاسيا (المقصود القيامة) تظل مكان الصلاة الرئيسي بالنسبة لهم كما كانت حتى الآن..

وعين السلطان سليم باشا حاكماً على المدينة وثبِّت مولانا أخفش زادة شيخ الدراويش المولوية في منصبه ومنح 500 أقجة على سبيل الصدقة.. وتم تخليص إيالة فلسطين من يد المماليك، وهي ما تزال تعتبر نوعاً من "إقطاعية شعير" تمنح لأرباب المناصب الكبيرة، ويبلغ محصولها العائد إلى السلطان 357.485 أقجة، وفيها تسع زعامات و 106 تيمارات. ولدى حاكم القدس 500 جندي يأتمرون بأمره وهو أمير الحاج الشامي. وأمير حجاج مكة في الذهاب والإياب. وتبلغ مخصصاته السنوية 40.000 قرش".

ويتابع وصفه لحال القدس في زمنه: "إنها ولاية مزدهرة. لكن أرباب الإقطاعيات فيها لا يؤمرون بالخدمة في الميدان. وما على هؤلاء إلا أن يرافقوا وهم يحملون إعلامهم الحجاج القادمين ويأخذوهم إلى مكان الحج الذي يقصدونه. ويبلغ عددهم جميعاً ستمائة رجل.. ويتلقى قاضي القدس، وهو الحاكم المدني، مخصصات تعادل مخصصات الباشا، ولأن المنطقة التي ينفذ حكمه فيها تعد ألفاً وستمائة قرية يعين في كل منها نائب شرع، وذلك أن ولايته رفيعة المقام.

وعندما يظهر أحياناً أن البطاركة والقسس والشمامسة والرهبان والقساوسة المتزوجين يخلفون بعد وفاتهم بعض الأموال فإن الملا (القاضي الكبير) والباشا يحصلان من تلك الأموال على ما يتراوح بين أربعين وخمسين ألف قرش. ويحدث ذلك بوجه خاص في عيد الفصح الشائن عندما يذهب الملا والباشا إلى باب كنيسة الأنسطاسيا (القيامة) الذي لا يفتح في ذلك اليوم قبل وصولهما إلى هناك، ويأخذ القسيس من كل حاج من الحجاج الذين يتراوح عددهم بين الخمسة آلاف والعشرة آلاف ما بين عشرة قروش وخمسة عشر قرشاً. ويعطى الملا والباشا مبلغاً كبيراً".


مدينة مدججة بالسلاح

بعد ذلك يصف رحالتنا الوضع العسكري في القدس فيقول: "هناك في القدس قائد الفرسان (آغا السباهية) وقائد الانكشارية وقائد لانكشارية دمشق ومناصب للشيوخ الأربعة للمذاهب الأربعة، ونقيب للأشراف. أما الأشراف والأعيان والعلماء والصالحون فعددهم كبير جداً. وهناك أيضاً قائد القلعة (الدزدار) ويتبعه حامية تتألف من مائتي رجل.. ويرسل الملا جنوداً من الحامية إلى الجهات الصعبة في البلاد ليكونوا تحت تصرف القضاة المقيمين في القدس والخليل ونابلس والرملة والكرك واللجون وجنين.

وقد جمعت هذه المناطق كلها تحت ولاية قاضي القدس. وتضم المناطق أحياناً إلى منطقة القدس تبعاً لمقدرة الملا، ولكنه يعين في بعض الأحيان قاضياً لبضع سنوات للقدس وحدها. وباختصار فإن الحصيلة السنوية للإدارة القانونية في القدس تبلغ 40 ألف قرش".

ويضيف: "يتبع ملا القدس 20 ضابطاً (آغا) يعينون ببراءات من السلطان وأول هؤلاء المحضر باشي الذي يعينه السلطان في احتفال رسمي. وهو الحارس الليلي لأبواب المدينة، وينفذ مهام وظيفته بوساطة العساكر السلطانية. والآغا الثاني هو ناظر الشرطة الذي يعين خصيصاً للقدس وهو منصب عال يشتهيه الكثيرون.

والآغا الثالث هو المعمار باشي ـ (رئيس المعماريين)، والرابع هو المهندس باشي والخامس هو المعتمد باشي (كبير الوكلاء) والسادس الصَّراف باشي (أمين الصندوق الرئيسي) الذي يقوم شخصياً بدفع الهبات السنوية (الصرة) التي ترد من السلطان إلى العلماء والآغا السابع هو الخزندار باشي (أمين بيت المال) والثامن هو الصوباشي (ضابط الشرطة) والتاسع البازار باشي (المحتسب) والعاشر الكتخدا (رئيس البلدية) والحادي عشر: رئيس سوق القماش المقصَّب. وباختصار فإن رؤساء جميع فئات التجار يحضرون يومياً إلى المحكمة الشرعية لأداء واجباتهم".


غزة... مدينة مزدهرة العمران

يصل أوليا جلبي إلى غزة قادما من القدس فيقول في ذلك: "فما كدت أهبطها حتى توجهت إلى منزل حاكم الولاية حسين باشا. فسلمت عليه، وقدمت له احترامي. ثم ناولته رسالة مولاي مرتضى باشا والثياب الحريرية والهدايا الفاخرة الأخرى التي أحملها إليه منه. فسر بها كثيراً. وقال: أجل. إنه لفرض علينا إن شاء الله. ولا بد أن نرسل معك من يساعدك في تحصيل البقايا، وأن ندفع نحن ما علينا من دين. ولم يضن الباشا عليّ بشيء من لطفه وكرمه.

فأعدّ لي منزلاً خاصاً من منازله نزلت به. وقضيت الوقت كله معه في حديث وبحث وتدوين. فأيقنت أن الباشا صديق صادق قولاً وفعلاً. إنه خفيف الروح، لطيف المعشر، أكرم من حاتم طي، أديب، شاعر، ومؤرخ. وعندما علم الباشا أنني ميال للأسفار جمعني مع عدد كبير من علماء المدينة ومؤرخيها. فقضينا الوقت كله، ليلاً ونهاراً، في تتبع آثار المدينة وأخبارها".

ويضيف: "أما الآن فإن غزة عامرة، ولها مستقبل زاهر، فقد انتقلت عام 922 للهجرة من يد السلطان الغوري إلى يد السلطان سليم الأول. وهي الآن مركز لسنجق غزة التابع لولاية سوريا. والضرائب الأميرية المعينة لأمير اللواء فيها هي (508328) من الفضة.

ولها سبع زعامات، ومئة وسبع تيمارات، وفيها، بموجب القانون، 1150 عسكرياً بينهم من يحملون رتبة (جبه لو). كما أن الباشا والآلاي بك فيها يسيران تحت لوائها.. وأما منصب القاضي، ذلك المنصب النبيل، فقد خصص له ثلاثمائة من الفضة. وعلاوة على هذا فإن مبلغاً قدره أربعة آلاف قرش يجمع من قراها لأجل القاضي، وآخر قدره ثمانون ألفاً لأجل الباشا".

ويصف أوليا جلبي سنجق غزة فيقول: "هذا السنجق مأهول بالسكان، ومزدهر بالعمران. وهناك شيخ للإسلام ملم بالفقه على المذاهب الأربعة الكبرى، ونقيب للأشراف، وأعيان، ونبلاء عظام، ورجال أفاضل، وكوكبة من السباهي المحترمين، ورجال ماهرون في مختلف الحرف والصنائع.. وهناك، فضلاً عن ذلك، نائب المدينة، وصوباشي، ومحتسب، ولما كانت هذه المدينة قد منحت منذ أيام السلطان سليم الأول إلى حسين باشا وأولاده من بعده وأسرته على مدى الحياة فإن جميع الضرائب التي تجنى فيها شخصية تخص الباشا".

وفي وصفه للمدينة يقول: "إن قلعة غزة التي بنيت في العهود الغابرة دمرها نبوخذ نصر. وأما حصنها الحالي فقد بني في وقت بعد ذلك التاريخ، إنه لحصن صغير، مربع الشكل، مبني من الحجارة الرملية في وسط الرمال على مسافة ساعة من شاطئ البحر للشرق. وقد شيدت جدران هذا الحصن على ارتفاع عشرين ياردة من الأرض. وله باب من حديد متجه نحو القبلة.

ويترتب على الدزدار والجنود أن يظلوا دوماً مرابطين في الحصن على أهبة الاستعداد. إذ إنه حصن من الخطورة بمكان لوقوعه على تخوم العشائر والقبائل البدوية. والأعداء كثيرون. وأن السلع القيمة، والأشياء الثمينة التي يقتنيها الوجوه والأعيان بوجه خاص، وسكان المدينة بوجه عام، تحفظ في داخل القلعة. وفيها أيضاً منازل الجنود، مستورة بالتراب. وفيها أيضاً مسجد، وعنابر للحنطة ولسائر أنواع الحبوب والمؤن، ومخازن للأسلحة والمهمات الحربية.

كان أن فيها مدافع ملكية من الطراز البديع، مجهزة بكل ما تحتاج إليه من ذخائر ومهمات. إن الناحية المواجهة للقبلة من نواحي القلعة شبيهة بمدينة كبرى. وأمام مدخل القلعة من الناحية الأخرى من الشارع، مسجد يصلي الناس فيه الأوقات الثلاثة في النهار. ويؤم هذا المسجد عدد كبير من المصلين".


عمران غزة

وحول عمران غزة يقول: "غزة مدينة تاريخية قائمة فوق سهل وسيع منبسط. ولها ستة أحياء. وفيها ألف وثلاثمائة منزل. وجميع منازلها مبنية من الحجر. وأسطحتها مستورة بالطين والكلس. وفيها عدة سرايات وقصور، وأن اللسان ليعجز عن وصف سراي حسين باشا. هذا الباشا الكريم الذي يزوره لا يقل عن مئتين من الضيوف في كل ليلة بين مشاة وفرسان.. وفي المدينة سبعون مسجداً ذوات محاريب. وفي أحد عشر مسجداً تقام صلاة الجمعة.

وفي القرب من السوق مسجد يقال له (مسجد الجمعة)، ويصلي فيه حاكم الولاية حسين باشا، وهو يتسع لعدد كبير من المصلين. وإنه لبناء جديد وجميل. ليس له نظير. إذ تسابق البناؤون والمهندسون من القاهرة ودمشق والقدس الشريف فأبدوا كل ما لديهم من فن ومقدرة، وأبدعوا في بنائه ما شاء الإبداع أن يكون.

والبناء الخبير الذي تولى بناء هذا المسجد بنى له في الوقت نفسه مئذنة عالية متقنة الصنع، لها أروقة ثلاثة، بشكل منقطع النظير. حتى إن مسجد الجمعة الذي بناه سنان باشا فاتح اليمن لم يكن على هذه الدرجة من الإتقان. وفي وسط المدينة تكية عبد العظيم، وبالقرب منها تكية مرغان، وفيها مئتا سبيل يرتوي من مائها العطاش.. ولما كانت المدينة واقعة على طرف البادية فليس فيها أنهار جارية. وكل ما هنالك مياه أرضية. إن ماء الحياة يحمل إليها من الخارج على ظهور الإبل.. ومن الحمامات العمومية الكائنة في غزة يجدر بنا أن نذكر حمام الباشا، وحمام العسكر، فإنهما لطيفان ومنعشان للغاية".

ويلفت أوليا جلبي النظر إلى أن غزة وإن لم تكن ميناء بكل ما في هذه الكلمة من معنى إلا أنها مدينة تجارية فيها 600 دكان، تستطيع أن تجد في سوقها بضائع وأشياء ذات قيمة. وأن مصانع الزجاج والسروجية فيها رائجة. كما أن سوق التجار المبني من الحجارة مزدهر للغاية".

وحول سكان المدينة يقول: "هم يلبسون السمور والفراجية وثياب أخرى غير مزخرفة. وأما الطبقة الوسطى فإنها تكتسي ثوباً بسيطاً أبيض اللون. وأما العمال والطبقة الفقيرة من السكان فإنهم يلبسون (سرتية كراكة؟) ولهذا الثوب أشكال مختلفة. وهؤلاء يلبسون أيضاً العباءة. والغزيون بوجه الإجمال بيض الوجوه، ذوو حواجب قاتمة وهناك فئة منهم سمر اللون كأنهم مدبوغون بالشمس.. إنهم ذوو عزم وإحساس ونشاط، وهم أحرار وكرام ومحبون للضيف، ولا سيما إذا كان هذا غريباً. يعيشون على التجارة والأعمال اليدوية".


الزراعة والمتنزهات

وحول زراعات غزة يقول رحالتنا: "للمدينة جو بديع وهواء عليل، وهي واقعة في الإقليم الرابع. تكثر فيها الحنطة. وهذه معروفة ببياض لونها، وكبر حجمها، ويسمونها سن الجمل. وأما شعيرها فإنه مشهور، وكذلك قل عن قطنها، وحريرها. والكراكة التي تصنع من الصوف في غزة، وكذلك المحارم، والبشاكير، والفوط الصغيرة والكبيرة، فإن هذه كلها تصنع في غزة وهي مشهورة..
وفيها سبعة آلاف كرم يغرس فيها العنب. وعنبها مشهور. وكذلك قل عن زيتونها، وتوتها، وليمونها، وكبادها، وتينها، وشمامها، ورمانها، وبلحها، وعن فواكهها الأخرى، فإنها مشهورة في أسواق العالم. إن زيتها يصدر لمصر محملاً على مئات من الجمال. ويروج في أسواق مصر رواجاً غريباً لجودة صنعه".

ويفرد جلبي مساحة للحديث عن متنزهات غزة فيقول: "إن عين السجان هي إحدى المحلات التي يطرقها الغزيون للنزهة؛ بالقرب من غزة وفي مكان يدعى (إبلة) حيث ينبسط سهل غير متسع، فيه خمسة ينابيع جارية. منها عين السجان التي يزداد ماؤها في فصل الشتاء، ويقل في فصل الصيف. والمياه التي تنبع منها تجري على وجه الأرض، ثم تغور في حفرة من الأرض. لو شرب جيش برمته من ماء هذه القرية وظل يفعل ذلك مدة عشرة أيام وعشر ليال متواصلات لما نقصت كمية المياه التي فيها.

والغريب في الأمر أن ماءها لا يفيض، ويعتقد الأهلون أنه إذا شربت الطيور والحيوانات الداجنة والوحوش من مائها فإن شعرها ووبرها يزول فوراً. وأما الإنسان فلا. إنه (أي الإنسان) إذا شرب من مائها يجد فيه العلاج الشافي للكثير من أوجاعه وآلامه". 

المساهمون