تلوح في الأفق بوادر نزاع قد تتورط روسيا فيه، ويتحوّل إلى نزاع عسكري مباشر، لفك الحصار الذي فرضته أوكرانيا على الجنود الروس في قوة حفظ السلام في جمهورية ترانسنيستريا المولدوفية غير المعترف بها، وذلك بعد المأزق الأخير الذي وجدت موسكو نفسها فيه حين أبطل البرلمان الأوكراني اتفاقيات سابقة كانت تسمح بنقل الإمدادات إلى القوات الروسية المتمركزة هناك، فإذا بالأخيرة محاصرة ومحرومة حتى من المؤن.
كييف تصعّد وموسكو تستعد
في الحادي والعشرين من مايو/أيار الحالي، أقر البرلمان الأوكراني انسحاب أوكرانيا من خمس اتفاقيات سابقة للتعاون العسكري مع روسيا، بما في ذلك اتفاقية عبور الجنود الروس المتواجدين في مهمة مؤقتة في مولدوفا للأراضي الأوكرانية، وكذلك اتفاقية النقليات العسكرية الحكومية. وذلك يضع الجنود الروس المتواجدين في مهمة حفظ سلام ترانسنيستريا (بريدنيستروفيه) المولدوفية في مأزق حقيقي، نتيجة قطع الإمدادات تماماً عنهم. فلا حدود جغرافية لهذه الجمهورية غير المعترف بها سوى مع مولدوفا وأوكرانيا، ولا طريق إليها من روسيا إلا عبر أوكرانيا. وحتى وقت قريب، كانت قوة حفظ السلام الروسية المتواجدة هناك والتي يبلغ عددها قرابة ألفي عسكري وضابط، تحصل على الإمدادات عبر الأراضي الأوكرانية حصراً، وكانت اتفاقيات موقّعة بين البلدين تضمن ذلك. لكن ذلك لم يعد ممكناً اليوم. فما العمل؟
في ردة فعل أولية، أبدت الخارجية الروسية أسفها للقرار الأوكراني، وأشارت إلى أن الإمدادات ستنقطع فعلاً عن القوة الروسية الموجودة هناك، وقالت في بيان: "ليس لدينا طريق آخر إلا عبر أوكرانيا، وهكذا، فأوكرانيا من خلال قرارها الأخير، وبوصفها طرفاً في التنسيق بشأن تسوية بريدنيستروفيه، تلغي عملياً كل الجهود المبذولة للتسوية وتستعرض موقفها من هذه العملية وعدم اهتمامها بإرساء السلام والهدوء".
وفي سياق متوافق مع موقف الخارجية الروسية، نقلت وكالة "إنترفاكس" عن وزيرة خارجية ترانسنيستريا، نينا شتانسكي، قولها إنه "من الصعب جداً تفسير القرار الأوكراني منطقياً، استناداً إلى حقيقة أن أوكرانيا هي دولة ضامنة في تسوية بريدنيستروفيه (ترانسنيستريا). كما أن أوكرانيا تشارك في عمليات حفظ السلام ببعثة مراقبين عسكريين".
وتُعدّ أوكرانيا ضامناً لعملية التسوية في ترانسنيستريا بين تيراسبول وكيشينيوف (كيشيناو) ضمن صيغة (5+2) التي يدخل فيها طرفا النزاع، إضافة إلى روسيا بصفة ضامن ووسيط سلام، وبعثة الأمن والتعاون الأوروبية كوسيط، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية كمراقبين، وأوكرانيا كمشاركة في بعثة حفظ السلام من خلال مراقبين عسكريين للوضع على الأرض، إلى جانب الجنود الروس والمولدوفيين والبريدنيستروفيين.
اقرأ أيضاً: أزمة مولدوفا تتفاقم مع التباعد الروسي الأوروبي
ماذا يقول العسكر؟
للوهلة الأولى يبدو أن لا خيار أمام روسيا إلا تأمين طريق لتزويد جنودها بما يلزمهم، ولا طريق إلا عبر أوكرانيا. فهل يعني ذلك تحدياً عسكرياً يصعب القول إلى ماذا يمكن أن ينتهي؟ أم ستتمكن الدبلوماسية، بما فيها الأوروبية، من إيجاد مخرج من الوضع القابل للانفجار؟
ثمة تصريح لا يبدو مطمئناً في هذا الشأن. فقد نقلت وكالة "إنترفاكس" عن منسّق إدارة المفتشين بوزارة الدفاع الروسية الجنرال يوري يعقوبوف، قوله: "الآن، وبعدما فسخت أوكرانيا جميع الاتفاقيات مع روسيا، في مجال النقل والترانزيت العسكري، بما في ذلك النقل عبر الأراضي الأوكرانية، فلا يبقى أمام وزارة الدفاع (الروسية) إلا تأمين كل ما يلزم لقوة السلام الروسية عبر جسر جوي من خلال طائرات شحن عسكرية". وأكد أن وزارة الدفاع الروسية وهيئة الأركان العامة "ستجد في جميع الأحوال حلاً لتأمين القوات الروسية بكل ما يلزم، بما فيها وحدة حفظ السلام". ورأى أن القرار الأوكراني يمكن أن يؤدي إلى تصعيد في ترانسنيستريا، وإلى تغيير تركيبة قوات السلام هناك، وربما الحيلولة من دون مشاركة روسيا فيها. الأمر الذي لا يبدو أن موسكو ستتساهل حياله.
في هذه الأثناء، تجد روسيا نفسها في مأزق، وخصوصاً أن أوكرانيا نشرت منظومة صواريخ "إس-300" في أوديسا بصورة استعراضية، ما قد يؤدي إلى صدام مسلّح في حال اعتراض الصواريخ الأوكرانية لطائرات الشحن العسكرية الروسية.
ولكن على الرغم من أن الإمدادات المنتظمة للقوة الروسية في ترانسنيستريا مقطوعة في الفترة الأخيرة تقريباً، بعد أن باتت تتحكم بها العمليات العسكرية الدائرة في جنوب شرق أوكرانيا وتعترضها اتهامات كييف لموسكو بتزويد انفصاليي إقليم دونباس بالسلاح، مما حرم العسكر المرابطين هناك حتى من وصول المواد الغذائية، إلا أن قرار البرلمان الأوكراني جاء ليتثبّت الواقع حقوقياً، ويحرم موسكو من حقوقها السابقة.
بارود بانتظار شرارة
وهكذا، تجد روسيا نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإما أن تكسر الحصار بالقوة وترسل طائراتها العسكرية عبر الأجواء الأوكرانية، أو تقبل بالأمر الواقع وتسحب وحدتها من ترانسنيستريا. وأما الواقع فيقول بتعذّر قبول موسكو بالخيار الثاني وخطورة مثل هذا الأمر، سواء من زاوية احتمال تفجّر الوضع بين كيشيناو وتيراسبول، أو من زاوية مصير مستودعات السلاح والذخائر الضخمة العائدة للترسانة السوفييتية التي كانت مخصصة لجبهة أوروبا الشرقية في حال نشوب حرب عالمية ثالثة والتي تحرسها الوحدة الروسية على أراضي ترانسنيستريا، بعدما لم يعترض أحد على ملكية روسيا لها، والأصح لم تكن بأحد حاجة إليها في زمن انهيار المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو.
المستودعات العسكرية بالقرب من محطة قطارات "كولباسنا" التي يحرسها الجيش الروسي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، هي الأكبر في أوروبا، وفيها آلاف الأطنان من الذخائر إلى الآن (تقديرات العام 2000 تقول بوجود 42 ألف طن من الذخيرة) ومئات العربات المدرعة وبطاريات المدفعية والصواريخ المضادة للطائرات وعربات قوات الهندسة، ومخصصات فردية كاملة لأكثر من 100 ألف مقاتل، و1200 شاحنة عسكرية جديدة غير مستعملة من طراز "أورال" و"كاماز"، ومطابخ ميدانية وكثير سوى ذلك، من الإرث السوفييتي الذي يعدده موقع "سبريسا.رو".
وتُعدّ مستودعات الذخائر هناك مشكلة بحد ذاتها، بصرف النظر عن تطور الموقف بين كييف وموسكو، فنتيجة لتقادم الذخائر وخطورة تحريكها، لا يمكن نقلها إلى روسيا، ذلك أن ما يزيد عن 57 في المائة منها فاتت مدة صلاحيتها كما يقول الخبراء، وليس إتلافها في المكان أقل خطورة من ذلك، ناهيكم بالتكلفة الباهظة والمخاطر الجسيمة لتفكيكها في حال التفكير بذلك. علماً بأن روسيا تمكّنت من نقل جزء منها إلى أراضيها بدءاً من العام 2000 بعد موافقة كيشيناو وكييف على ذلك، إلا أن العملية توقّفت عام 2004 نتيجة الخلافات المستمرة بين العواصم الثلاث، موسكو وكييف وكيشيناو.
وهكذا، ففي حال أصرّت كييف على منع الجيش الروسي من عبور أراضيها وأجوائها، واضطرت موسكو إلى سحب قواتها من ترانسنيستريا، فكيف سيكون مصير هذا الإرث الخطير؟ وبيد من سيقع وكيف سيُستخدم في حال تجدد النزاع المسلّح بين أنصار الجمهورية غير المعترف بها وكيشيناو التي ستجد من يفيد من توريطها في صراع وزج الإقليم فيه بما في ذلك روسيا، بل بالدرجة الأولى؟
اقرأ أيضاً: مولدوفا ساحة مواجهة روسية ــ أميركية متجدّدة