أوروبا ومتاعب الجار التركي

31 يوليو 2016

أوغلو وتاسك ويونكر ببروكسل بعد توقيع اتفاق بشأن اللاجئين(18مارس/2016/Getty)

+ الخط -
ازدادت أهمية تركيا على الصعيد الجيوسياسي، مع ارتفاع أعداد اللاجئين فوق أراضيها، وبدء عمليات التسلّل إلى القارة الأوروبية بكل السبل الممكنة. وأبرمت بروكسل اتفاقياتٍ عديدة لوقف موجات تدفّق اللاجئين، في مقابل بناء مزيدٍ من مراكز اللجوء والمعسكرات، للإبقاء عليهم فوق الأراضي التركية، وحصول الأخيرة على دعم مالي، يقدّر بمليارات اليوروات تقدّم على دفعات، وفرض شروطٍ على تركيا الالتزام بها، لإعادة النظر بفتح ملفات انضمام تركيا للمنظومة الأوروبية. لكن تسارع الأحداث، وتراجع الحياة الديمقراطية في البلاد، حسب المعايير الأوروبية، أدّى إلى تجميد هذه التوجّهات، ورفع مستوى الرقابة الأمنية على الحدود المشتركة مع تركيا، في محاولةٍ يائسةٍ لمواجهة موجات اللجوء. رافق ذلك تصعيد إعلامي ضدّ اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، وشيطنة نياتهم ومعتقداتهم، الأمر الذي وجد آذانًا صاغية، بعد تعرّض المدن الأوروبية لعمليات إرهابٍ بالبنادق الآلية والطعن والدهس الجماعي، وغيرها من الطرق غير التقليدية.

تركيا – دولة رئاسية
تعامل المجتمع الأوروبي والفئات المؤثرة من المحللين السياسيين والمثقفين مع محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، أخيراً، بحذر وازدواجية، ففي وقتٍ عبّروا فيه عن رفضهم ثقافة الانقلاب وعبثيتها، كالوا للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اتهامات بمحاولة فرض الحكم الشمولي المتفرّد، وتوصيفه بالدكتاتور الساعي إلى إحياء مجد الإمبراطورية العثمانية العظمى، وعرش السلطان صاحب الجاه والقرار النافذ. وطالب الأوروبيون الحكومة التركية بالحفاظ على حقوق المواطنين، وعدم التنكيل بقائمة المتورطين بمحاولة الانقلاب التي شارك فيها عدة جنرالات ومن أركان الجيش، وحذّروا من تبعات تجديد أحكام الإعدام بحقّ الانقلابيين والمعارضين.
باتت تركيا بعد الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016 أقرب ما تكون إلى رؤية أردوغان وطموحه، وكابوسًا لشركائه في حلف الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، إذ تمكّن أردوغان من فرض السيطرة على البلاد، وإفشال الانقلاب خلال ساعات كما هو معروف، لكن تبعات هذه العملية ستستمرّ فترة طويلة، بدءًا بتنظيف صفوف الجيش والشرطة وكل الحركات المعارضة للسلطة الحاكمة، والتخلّي عن المعايير الديمقراطية والحكم الإثنوقراطي.
وحسب البروفيسور في العلوم السياسية، أنا كريستيفا، تمكّن أردوغان من اختطاف الانقلاب وتوظيفه لصالح سلطته، بطريقةٍ ذكية ومبدعة. وانتقدت كريستيفا مبادرة الرئيس التركي للسيطرة على قطاع القضاء وإعادة بناء هيكليته، باعتباره مستقلا عن السلطة التنفيذية. وهي ترى أنّ الأوساط الأكاديمية أداة طبيعية للتعبير المختلف والمتنوع لكل أطياف المجتمع، واتهمت أردوغان بإخضاع الطبقة المثقفة بأكملها، معتبرة ذلك ثمرة سياسته الاستبدادية التي انتهجها منذ سنوات. ويوضح اختطاف الانقلاب إطار طموح أردوغان، للاستحواذ على السلطات، وحظر نشاط المعارضة السياسي. لكن الطرح والتحليل الذي تقدّمت به الخبيرة لا يوضح موقف المعارضة السياسية التركية ضدّ محاولة الانقلاب، لإدراك المعارضة الأبعاد السلبية التي قد تترتب على تسلّم العسكر مقاليد الحكم في البلاد، وقد عانت معظم طبقات المجتمع التركي من تجارب الانقلابات السابقة وتبعاتها.
لم يتمكّن حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس أردوغان، من الحصول على الأغلبية في
الانتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ليتمكّن من تمرير قراراته بيسر، ومنها تعديل الدستور، واستبدال نظام الحكم البرلماني بنظام رئاسي. لذا، سعى أردوغان إلى السيطرة على البرلمان، وليس من المتوقّع أن يتمكّن من ذلك، في ظلّ الأوضاع الراهنة. وترى أوساط سياسية غربية أنّ تركيا تبتعد عن الغرب، وتقترب إلى النمط الشرقي للسلطة، الأمر الذي يحمل مخاطر كثيرة على مستقبل الدولة والمجتمع التركيين، لصعوبة فرض السيطرة المطلقة على المؤسسات ومراكز القرار في دولةٍ متعدّدة القوميات، وقد تتجدّد أعمال القلق والتخبّط، أخذًا بالاعتبار التجاذبات الإثنية والسياسية في الملف الكردي والأوساط المعارضة نهج الرئيس أردوغان والأزمة السورية. حالة عدم الاستقرار وطموح حزب العدالة والتنمية لفرض السيطرة على البلاد بالكامل تجعل من تركيا أخطر جيران الأوروبيين، وبركاناً قابلًا للانفجار في أيّة لحظة مقبلة.

من وراء محاولة الانقلاب؟
تركت محاولة الانقلاب الأخيرة أسئلة عديدة أهمّها عمّن يقف خلفها؟ هل هم الكماليون، كما تشير مجريات العملية وتفاصيلها، أم إنّ الداعية ومؤسس جماعة الخدمة، فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتّحدة الأميركية هو الذي يقف خلف هذه العملية، كما تدّعي الحكومة التركية. وهناك كثيرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك في تأويلاتهم، متّهمين الحكومة بافتعال عملية الانقلاب ومحاكاتها، لكنّهم تراجعوا عن هذه الفرضية في الأيام التالية. على أيّة حال، هناك قناعة بأنّ الانقلابيين لم يأخذوا بالاعتبار قدرة التأثير الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي، وشأن خروج الملايين للساحات والشوارع تعبيراً عن رفضهم نهج الانقلاب، والإبقاء على دعم الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا، على الرغم من الأخطاء التي ارتكبتها على الصعيدين، السياسي والاجتماعي. وأكّدت مجموعات معارضة كبيرة رفضها الانقلاب، مفضّلة الخيار الديمقراطي، حتّى وإن كان سيّئًاً أمام أفضل طغمة عسكرية، حسب البروفيسور هاورد آيزنشتات، الخبير في الشؤون التركية في جامعة القديس لورنس. وبهذا حيّد المجتمع التركي، بأطيافه كافة، الجنرالات عن القرار السياسي، في الوقت الراهن على الأقل.
أظهرت تركيا للعالم آليات تنظيم وإخراج انقلاب مثالي على الدولة. وخلال ساعاتٍ، قدّمت للعالم درساً آخر في كيفية السيطرة على هذه الوضعية غير السوية. هذا واقعٌ لا يمكن إنكاره، وكان حريًا بالرئيس أردوغان أن يستثمر الفرصة الذهبية، لتوحيد المجتمع التركي، وعدم الشروع في عمليات تطهير وانتقام على نطاق واسع. وتتّفق أحزابٌ أوروبية عديدة في اليسار واليمين، على حدّ سواء، على توجّهات أردوغان إلى السيطرة المطلقة على كل مساقات الحياة. ويبدو أردوغان، في نظرهم، مقاتلا أكثر منه زعيماً موحّدًا للمجتمع التركي، قادراً على اتخاذ قرارات حاسمة ومصيرية، خلال أيام معدودة، لتطهير البلاد من المعارضين، في وقتٍ كان يحتاج فيه إلى سنوات عديدة للتوصّل إلى هذه النتائج، من دون حدث محاولة الانقلاب.
يأخذ قادة وخبراء أوروبيون عديدون على محمل الجدّ إعلان حالة الطوارئ في تركيا، ويعتبرونها مبرّرًا لإطلاق يد الرئيس أردوغان، للقيام بأكبر عملية اصطياد في تاريخ البلاد، ليرتفع تعداد المعتقلين إلى ما يزيد على 60 ألف شخص خلال أسبوع، شملت قضاة وجنرالاتٍ وجنوداً وغيرهم من كل فئات المجتمع. وقد فرضت بعض الدول الأوروبية حالة الطوارئ، أخيراً، إثر الأحداث الإرهابية التي تعرّضت لها. ولكن، لم يصاحب ذلك عمليات تنكيل وإقصاء للفئات الحاضنة، مع الأخذ بالاعتبار الفرق بين الوضعيتين.
تبدو تركيا، في هذا السياق، من وجهة النظر الأوروبية غير مستحقّة عضوية "الناتو"، واستمرار محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن، لا يمكن لحلف شمال الأطلسي التخلّي عن تركيا، وليس متوقّعاً أن تدير بروكسل ظهرها لأنقرة.
وحسب البروفيسور في جامعة أوكلاهوما، فيرات دمير، يفضّل القوميون في الجيش التركي،
وإسلاميون في البرلمان، توطيد العلاقات مع روسيا، على حساب العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. عملياً، لا تمتلك بروكسل وواشنطن آلياتٍ للضغط على الرئيس أردوغان، وتركيا في منتهى الأهمية، ولا يمكن أن تتجاهلها القوى العظمى. يدرك "الناتو" القدرة الاستراتيجية العسكرية لتركيا، ويرغب بالإبقاء على شراكته مع أنقرة، للدور الرئيسي والإقليمي للجيش التركي في مواجهة "داعش" والتنظيمات الإسلامية المتطرّفة. أمّا العلاقة مع دول المنظومة الأوروبية، فتبدو آيلةً للتردّي والتراجع. الأزمة التركية الأخيرة بمثابة المحكّ لمعرفة مآل العلاقات التركية الأوروبية، وصعوبة تأثير بروكسل على تغيير الواقع التركي، في وقتٍ تمتلك فيه أنقرة ورقة ضغط مهمة، بالنسبة للقارة الأوروبية، متمثّلة بملف اللجوء. تراجع مستوى هذه العلاقات يعني كذلك تخلّي أوروبا عن المحادثات الثنائية المتعلقة بمعايير القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وحريّة الصحافة وغيرها، مقدّمة أساسية لانضمامها للاتحاد.

الانقلاب وغولن
في وقت وجّهت فيه أصابع الاتهام لفتح الله غولن بتنظيم عملية الانقلاب، نشرت الصحف الأوروبية مواضيع عديدة متعلّقة بشخصيته، باعتباره إصلاحياً ورمزًا للتسامح، وداعية لإعادة النظر في المفاهيم الإسلامية، وتحديثها بما يتوافق مع الظروف المعاصرة. وأعيد نشر حوارات صحفية أجريت مع غولن، نشر أحدها في صحيفة لوموند الفرنسية في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2015، طالب غولن فيه بالحفاظ على الحياة البشرية معياراً حقيقياً للعقيدة الإسلامية، وعبّر عن أسفه لضحايا "داعش" والتنظيمات الإرهابية التي أودت بحياة الأبرياء في باريس، بهدف إظهار غولن قائداً مخلّصاً خلافًا للصورة النمطية التي رسمها أردوغان لغريمه، انقلابياً ومعارضاً للحكومة المنتخبة ديمقراطيًا.
استغلّ أردوغان محاولة الانقلاب، وسارع إلى إغلاق مدارس وإقالة قضاة ومواجهة "الكيان الموازي" الموالي لغولن في تركيا، وطالب الولايات المتّحدة الأميركية بتسليم غولن لحكومته، لمواجهة تهمة التورّط بالإرهاب، وتنظيم عملية الانقلاب. ولا يبرّر هذا كله حملة التطهير وإهانة الجند وعمليات التنكيل الواسعة التي شهدتها تركيا أخيراً، وكذا تجميد عمل مؤسسات مختلفة ونشاطها، وأهمّها قطاع القضاء والتربية والإعلام. ويأخذ تسليط الأضواء على فتح الله غولن، في هذه المرحلة بالذات، بالاعتبار أهمية الرجل وتاريخه العريق، وهو بمثابة مدرسة تنويرية، وقد التقى بابا الفاتيكان عام 1998، ويعدّ من المدافعين والداعين إلى حوار الأديان، ويهدّد، في الوقت نفسه، عرش أردوغان، لحضوره القوي والملموس في تفاصيل الحياة المدنية والرسمية في مؤسسات الدولة في تركيا. وجاءت الفرصة مواتية للتخلّص من الموالين لغولن والتفرّد بالسلطات الثلاث، ما قد يؤدّي إلى مواجهاتٍ شعبيةٍ لا تحمد عقباها في المستقبل، إذا أبقى أردوغان على حالة التوتّر والقلق في المؤسسات الحكومية والعسكرية والمدنية.

تفكيك قطاع القضاء
من اللافت للأنظار حملة التطهير الواسعة في قطاع القضاء التركي، وإقصاء نحو 2700
قاض في هذا القطاع. ويذكر أنّ من جديد ما نشر في موقع (Yarasav) مؤسسة القضاة والادّعاء التركي نصًّا قصيرًا "من أجل الديمقراطية والسلام" في 17 يوليو/ تموز الجاري، وفيه "يجب تنفيذ القانون بحقّ الذين أرادوا خرقه بواسطة الانقلاب، والحيلولة دون الانقلاب على الديمقراطية والجمهورية". وكان الموقع نفسه قد أغاظ نظام أردوغان خلال العام 2014، حيث انتقد السلطة التنفيذية علناً، وكذا تهديدها استقلالية السلطة القضائية. لذ،ا وجد ممثلو هذه المؤسسة المسؤولة عن شؤون التعاون الدولي أنفسهم بين أوائل أفواج المعتقلين، إثر فشل الانقلاب وإقالة نصف القضاة المدنيين والإداريين والعسكريين، وتعيين قرابة 5000 حقوقي على الفور، من دون التقدّم لامتحان تقييم لممارسة المهنة لسدّ الفراغ الإداري.
وحده القضاء هو القادر على النظر في الممارسات العنفوية الخاطئة للسلطة التنفيذية، والوقوف في وجه محاولات خرق القوانين ونصوص الدستور. واضطرّ بعض هؤلاء القضاة إلى ترك أبنائهم لدى أقربائهم، وانتظار الاعتقال الإداري في منازلهم، حسب دراغانا بيليوفيتش المدير العام للمؤسسة الأوروبية للديمقراطية والحرية لقطاع القضاء والادّعاء (MEDEL). وعلى أيّة حال، ليس ما حدث مفاجئاً لمجتمع القضاء الدولي، فهو استمرار منطقي لعملية الإصلاح التي بدأها نظام أردوغان قبل عامين، والهادفة إلى السيطرة المطلقة على السلطة القضائية في تركيا.
أثبتت الأحداث في تركيا، أخيراً، أنّ الانقلابات باتت مرفوضة، مع ظهور عوامل جديدة لم تكن في الحسبان، قادرة على إفشال الانقلابات، مهما كان حجمها وقوّتها ومستوى تنظيمها. قلب أمور الدولة رأساً على عقب لا يصبّ في مصلحة المجتمع، وغير قادر على إيجاد حلول ناجعة للمشكلات والأزمات العالقة. في المقابل، على الزعيم والقائد السياسي الناجح أن يكون أبًا لكل فئات المجتمع، أن يسمح بالحريات ويقبل المعارضة البنّاءة، والفصل بين السلطات، وتجنّب الإقصاء السياسي والإداري، وتهميش فئات مجتمعية، لمجرّد وجودها على الرصيف الآخر من السلطة، وما تزال الفرصة متاحةً أمام الرئيس أردوغان، للعمل على توحيد المجتمع وقبول المعارضين، في إطار ديمقراطي بنّاء. تركيا قادرةٌ على الإبقاء على دورها الاستراتيجي الفاعل في الإقليم، وقادرة على تجاوز هذه المحنة بعقلانيةٍ، تجنّبًا لأحداثٍ دمويةٍ مستقبليةٍ، وتجنّب الوقوع في غواية الحكم الدكتاتوري.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح