26 سبتمبر 2018
أوروبا رأس حربة أميركية
تمكّنت الولايات المتّحدة، في السنوات العشر الماضية، من رفع حجم وجودها العسكري في قارّة أوروبا، وخصوصاً الدول الواقعة في شرق القارة ووسطها، وحصلت على امتيازات عديدة لبناء قواعد عسكرية متطورة، لاستثمارها عشرات السنين، نقلت إليها أخيراً آليات وناقلات جنود ودبابات وصهاريج للتزود بالوقود والماء الصالح للشرب وتجهيزات طبية لتقديم المساعدة العاجلة، حال نشوب مواجهة عسكرية مع روسيا. وأقدمت الدول المعنية على هذه الخطوة، في محاولة لملء الفراغ الذي وجدت نفسها أسيرته، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي.
وفي حوار مفتوح أجراه الموقع الإعلامي "Forum News" مع بول كريغ روبرتس، المستشار المالي السابق للرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، من 1981 – 1982، أطلق فيه تصريحات نارية، قد لا تكون متوقعة لقوى ديمقراطية وليبرالية عديدة في أوروبا وأميركا. وطالب دول المنظومة الأوروبية بالتخلي عن حلف الناتو، إذا رغبت بعدم التورط في حرب عالمية ثالثة مع روسيا، تتّخذ فيه الولايات المتحدة من الدول الأوروبية مسرحًا لأحداث العمليات العسكرية. وذهب روبرتس إلى أبعد من ذلك، حيث صرّح أنّ أميركا تمكنت من شراء ذمم رؤساء وقادة بعض دول أوروبا الشرقية. ويذكر أنّ روبرتس كان قد وضع أسس السياسة الاقتصادية للرئيس الجمهوري الأربعين، رونالد ريغان، أهمّها خفض تضخم الجهاز الإداري، خفض الضرائب الفدرالية للدخل وأرباح رؤوس الأموال والحدّ من الرقابة الحكومية لقطاع العمل، وغيرها من الإجراءات. وساهم في إحداث تغيير في قانون الضرائب الأميركي، ما أدّى إلى تعزيز الاقتصاد الأميركي في ثمانينيات القرن الماضي، واعتماد اقتصاد دول عديدة على الاقتصاد الأميركي، ما أدّى، كذلك، إلى تراجع النظام الاشتراكي، وانهيار جدار برلين وانحلال الاتحاد السوفييتي.
مجموعات التأثير المتنفذة في أميركا
وألقى روبرتس مزيدًا من الأضواء على الفئات المؤثرة في الطبقات العليا في أميركا، وفي مقدمتها مجموعات اقتصادية متنفذة في القطاع الخاص، وتحديدًا القطاع العسكري وصناعة السلاح والأمن، وول ستريت والبنوك العملاقة، اللوبي الإسرائيلي، قطاع الزراعة – شركة مونسانتو متعددة الجنسيات مثالاً، وشركات التنقيب عن النفط والغاز والمناجم ومصادر الطاقة المختلفة. وتمتلك هذه المجموعات أموالاً طائلة، تستثمر جزءًا منها في دعم المرشحين المفضلين لعضوية الكونغرس والحملات الانتخابية لمنصب الرئاسة، لتحقيق مصالحها الخاصة، وعلى الفائزين المحافظة على مصالحها ودعمها. ويؤكّد روبرتس أنّ خطوات كثيرة يقوم بها المسؤولون في أميركا لا تصب في مصلحة المجتمع الأميركي، بالقدر الذي تخدم فيه مصالح المجموعات الاقتصادية الضاغطة. ويضيف إنّ ريغان كان الرئيس الأخير الذي تمتّع بحرية نسبية، بعيدًا عن الضغوط الاقتصادية المتمركزة في القطاع الخاص الأميركي، لتمتعه بشعبية كبيرة، أتاحت له هامشًا من الحرية السياسية. أمّا بشأن الانتخابات الرئاسية المقبلة، فلم يعد مهمًا من سيدخل إلى البيت الأبيض، ومن سيترشح لعضوية الكونغرس، لأنّ المجموعات المذكورة قادرة على التحكّم بهم، وتطويع إرادتهم.
ليس بول روبرتس وحده من يحاول التحذير من مغبة تورط أوروبا في حرب، أو في صراع استراتيجي مع روسيا، سيؤثر بلا شك على النمو الاقتصادي لهذه الدول، والذي يعتمد، بشكل أو بآخر، على مقوّمات الاقتصاد وموارد الطاقة الروسية.
صرح وزير الخارجية الأميركي الأسبق (1989 – 1992)، جيمس بيكر، لوكالة CNN للأنباء إنّ الولايات المتحدة أضاعت الفرصة في تلك الحقبة، لدعوة روسيا للانضمام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، الأمر الذي كان سيحول دون التصعيد العسكري في أوكرانيا ووقف القتال الدموي على الحدود المشتركة مع روسيا. ونوّه إلى ضرورة بذل الجهود مع حلفاء الولايات المتحدة لإيجاد الوسيلة لإعادة روسيا إلى المجتمع الأممي، وكان جديرًا بالحلف، إثر انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، السماح لروسيا بالانضمام إليه، باعتباره حلفاً سياسياً وأمنياً. أمّا طرح خطة مارشال على روسيا فليس موفقًا. وأضاف بيكر بأنّه كان حريًا بقادة الحلف إفساح المجال لروسيا للانضمام لنادي الأطلسي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما تعامل مع ألمانيا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً أن العلاقات الأميركية الروسية شهدت تحسنًا خمس عشرة سنة، في عهد بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين أيضًا. وطالب بيكر بوقف تقسيم أوكرانيا إلى أجزاء، لأنّ الاستمرار في هذا الشأن محفوف بمخاطر كثيرة على الصعيد الدولي.
في الوقت الذي بدأت فيه أصوات معتدلة ترتفع في أميركا، للحدّ من التوتر وترجيح العقل، بما يتعلّق بالأزمة الأوكرانية، يدلي الرئيس البولندي السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام، ليخ فاليسا، في الثامن من أبريل/نيسان الجاري، بتصريحات نارية للصحيفة الأوكرانية "إيكونوميتسكايا برافدا"، ويطالب الغرب بتهديد موسكو بالسلاح النووي عند الضرورة، للتوقف عن عداءيتها تجاه دول الجوار. وأضاف أنّه على استعداد للانخراط في القتال حال اعتداء موسكو على بولندا، مع أنّه حائز جائزة نوبل للسلام، واتهم روسيا بالعدائية وعدم تبنيها القيم الديمقراطية الأوروبية على مرّ العصور.
بوروشينكو يعرض لبوتين ضمّ إقليم دونباس
ووفقًا لما نشرته مجلة فوربس في مطلع شهر أبريل/نيسان الجاري، عرض الرئيس الأوكراني، بترو بوروشينكو، على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في المحادثات التي عقدت في مينسك يومي 11و12 فبراير/شباط الماضي، ضمّ منطقة دونباس لروسيا، لكنّ بوتين أجاب: هل أصبت بالجنون؟ أنا لا أحتاج لدونباس. إذا رغبتم بالتخلّي عنه، أعلنوا استقلال الإقليم. اعترف بوتين بهذه التفاصيل، في 19 مارس/آذار في اللقاء الذي جمعه مع ممثلي اتحاد رجال الأعمال والصناعيين الروس. وما دامت كييف غير قادرة على اتخاذ مثل هذه الخطوة، عليها إذًا الاعتناء بالأوضاع الاجتماعية، ودفع الرواتب ومستحقات التقاعد لمواطني دونباس، وعدم التهرب من هذه المسؤولية. وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية التي تعصف بأوكرانيا، عليها أن تجد حلولا جذرية للصراع الدائر في أقاليمها البعيدة.
لا يولي الرئيس الروسي اتفاقية مينسك أهمية كبيرة، ويعتقد أنّ الصراع والقتال في أوكرانيا سيشتد، ويرى أنّ السلطات في كييف لا ترغب بحلّ سلمي، وتبذل جهدها للانتصار على المتمردين، وتدمير الاقتصاد في منطقة دونباس. وأشار إلى أنّ كييف لم تصادق على قرار العفو على المتمردين، وأكّد إنّ الوضع القانوني للمواطنين من أصول روسية لا يضمن حقوقهم، ولا يسمح بإقامة حكم ذاتي. ويرى القادة الأوربيون إنّ أوكرانيا على وشك إجهاض اتفاقية مينسك، لكنّ رفع معدلات التوتر والعنف يصب، في النهاية، في صالح أميركا، لأنّ استمرار الصراع سيبقي على الخلاف قائمًا بين المنظومة الأوروبية وروسيا. ويضيف بوتين أنّ العقوبات المستمرة ستؤثر سلبًا كذلك على قطاع العمل في الاتحاد الأوروبي وروسيا، على حدّ سواء.
إقليم دونيتسك يكتفي بالاعتراف الروسي
ويعتبر إقليم دونيتسك في شرق أوكرانيا عبئًا على الحكومة الأوكرانية المركزية، وتبدو كييف غير قادرة على حسم الصراع فيه، مع رغبتها بالقضاء على المعارضة، حتى وإن كان ثمن ذلك عدم الالتزام بمعاهدة مينسك الثانية. وقد صرّح ألكسندر كاوفمان، وزير خارجية الإقليم غير المعترف به من أيّ طرف على الإطلاق، صرّح إنّ الإقليم يكتفي باعتراف روسيا الفدرالية بجمهورية دونيتسك الشعبية، وقال لصحيفة كابيتال البلغارية إنّ الأوضاع في الإقليم سيئة للغاية، فأوكرانيا تصعّد العنف، وتسيطر على بعض المحاور المهمة. وأضاف أنّ هناك ضرورة للتوصل إلى اتفاق، والجلوس إلى طاولة المفاوضات، لترسيم الحدود مع أوكرانيا لتشمل المناطق الأخرى التابعة للإقليم، بعد موافقة المواطنين على الاستقلال عن أوكرانيا في الاستفتاء الشعبي الأخير، أهم المدن المعنية هي كستانتينوفكا، كريماتورسك، ماريوبول وسلافيانسك وغيرها. وأكّد الوزير عدم وجود أي حوار سلمي مع كييف التي لم تلتزم بقرار وقف إطلاق النار، ولم تسحب آلياتها العسكرية، ولم تحدّد الوضع القانوني للإقليم.
وقال كاوفمان إنّه من غير الممكن عمليّاً إجبار أربعة ملايين مواطن في إقليمي دونيتسك ولوغانس، للمشاركة في الاستفتاء الشعبي، خلافًا لما هو متداول في الدول الغربية، مؤكّدًا أنّ الإقليمين يرغبان بالانفصال عن أوكرانيا، والحصول على الحكم الذاتي وإعلان الاستقلال. وأكّد أنّ القوات الشعبية المسلحة سحبت آلياتها من نقاط التماس، تنفيذًا لبنود اتفاقية مينسك الثانية، لكنّه انسحاب من طرف واحد. ودافع كاوفمان بشدّة عن روسيا، موضّحًا أنّها لم تتدخل بشأن تنظيم عملية الاستفتاء، وكان جزاؤها نتيجة لذلك فرض عقوبات اقتصادية قاسية ضدّها. ولم تقدم روسيا، حسب أقوال كاوفمان، سوى مساعدات إنسانية، من دون أيّ تدخّل عسكري. ويشار إلى أنّ متقاعدين عسكريين روساً انضموا للقتال في صفوف الانفصاليين في شرق أوكرانيا، كما رصدت الأقمار الصناعية آليات عسكرية روسية، متوجهة لهذه المناطق، وفقًا لما صرّحت به وكالات إعلام غربية عديدة. وعلى الرغم من أنّ الحديث عن المصادقة على دستور جديد في الإقليم يخالف بنود معاهدة مينسك، إلا أنّ قادة الانفصال هناك منهمكون، حاليًا، في وضع دستور مستقل عن أوكرانيا. ولن يتدخل الإقليم فيما بعد، إذا ما ثارت الأقاليم الأخرى، وأهمّها إوديسة وماريوبول وخاركوف، للحصول على استقلالها عن أوكرانيا، ما يعني تفتيت هذه الدولة على أرض الواقع. ويقيم قادة الانفصال في دونيتسك علاقات سياسية مع أحزاب سياسية روسية عديدة، ويرون عدم وجود رجال سياسة في أوكرانيا يمكن التواصل معهم، لإيجاد حلول عادلة للصراع القائم في شرق البلاد. وقال إنّ الإقليم سيكتفي باعتراف روسيا، لتحقيق النمو الاقتصادي، لامتلاكه مقدّرات صناعية وموارد للطاقة كثيرة، وأوروبا هي التي تحتاج لهذا الإقليم، وليس عكس ذلك، كما سيطرق الإقليم أبواب دول أميركا اللاتينية والأبخاز والصناديق الأميركية للاعتراف باستقلاله، كما قامت بذلك غولدا مائير، حين زارت أميركا وطالبت بالمساعدات المالية، وحصلت كذلك على الدعم الأميركي لإسرائيل. فهل تعني تصريحات كاوفمان تحوّل هذه الأقاليم أداة ضغط مستقبلية بيد روسيا، حال حصولها على الاستقلال المنشود؟
أمّا بشأن مستقبل الإقليم وعلاقاته مع روسيا وأوكرانيا، فقد صرّح كاوفمان أنّ الإقليم على أتمّ الاستعداد للبقاء ضمن الدولة الأوكرانية وعدم الانفصال عنها، إذا عوقبت التنظيمات والقادة العسكريون الذين أقدموا على قتل المواطنين الأبرياء في دونيتسك، وإذا تم القضاء على الفاشية في كييف، بحسب تعبيره. لكن، يبدو هذا الأمر مستحيلا. أمّا الانضمام للفيدرالية الروسية، فلن يتم قبل الحصول على الاستقلال.
رئيس تشيكيا يتحدّى
شهدت العاصمة التشيكية براغ، قبل أيام، خلافًا وحدّة غير مسبوقين بين الرئيس التشيكي ميلوش زيمان والسفير الأميركي أندريو شابيرو، بشأن المشاركة في احتفالات الكرملين في الذكرى السبعين للانتصار على الفاشية، في التاسع من مايو/أيار المقبل، حيث أعرب السفير عن أسفه لمشاركة زيمان، بصفته الرئيس الأوروبي الوحيد الذي سيشارك في الاحتفالات الروسية، وتعتبر الأزمة الأوكرانية السبب الرئيس في هذه المقاطعة. وانتقد الرئيس التشيكي بشدّة تدخل الدبلوماسي الأميركي في الشؤون الداخلية للبلاد، وقال إنّه من غير الممكن أن ينتقد السفير التشيكي في واشنطن الرئيس الأميركي. ومن المتوقع، بعد هذه المواجهة، بقاء أبواب قصر الرئاسة في خرادتشاني في براغ مغلقة في وجه السفير الأميركي. وأوضح الرئيس زيمان أنّه لن يذهب إلى موسكو للمشاركة في الاستعراض العسكري للجيش الروسي، وإنما للتعبير عن امتنان تشيكوسلوفاكيا للجيش الأحمر الذي قدّم 150 ألف مقاتل، قربانًا لتحرير بلاده في الحرب العالمية الثانية. تعدّ التشيك دولة حليفة ومقرّبة من الناتو والولايات المتحدة الأميركية، فهل ستتبع التشيك دول أخرى، في محاولة للحدّ من النفوذ الأميركي، وخفض معدّلات التدخّل في الشؤون الداخلية؟
ويحمل الخلاف في براغ، والذي يبدو سطحيًا، دلالات كثيرة، ويشير، بما لا يقبل الشكّ، إلى حجم النفوذ الأميركي في دول أوروبا الشرقية، والقدرة على التدخل في الشؤون الداخلية، خصوصاً بعد أن تمكنت من الحصول على امتيازات خاصة لاستثمار قواعدها العسكرية واستغلالها لتمركز القوات الأميركية، للقيام بعمليات التدخل السريع والعاجل في أوروبا والبلقان. ما يدلّ كذلك على أن أوروبا أخذت تلعب دور رأس الحربة الأميركية، بشكل ملموس وواضح.
وفي حوار مفتوح أجراه الموقع الإعلامي "Forum News" مع بول كريغ روبرتس، المستشار المالي السابق للرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، من 1981 – 1982، أطلق فيه تصريحات نارية، قد لا تكون متوقعة لقوى ديمقراطية وليبرالية عديدة في أوروبا وأميركا. وطالب دول المنظومة الأوروبية بالتخلي عن حلف الناتو، إذا رغبت بعدم التورط في حرب عالمية ثالثة مع روسيا، تتّخذ فيه الولايات المتحدة من الدول الأوروبية مسرحًا لأحداث العمليات العسكرية. وذهب روبرتس إلى أبعد من ذلك، حيث صرّح أنّ أميركا تمكنت من شراء ذمم رؤساء وقادة بعض دول أوروبا الشرقية. ويذكر أنّ روبرتس كان قد وضع أسس السياسة الاقتصادية للرئيس الجمهوري الأربعين، رونالد ريغان، أهمّها خفض تضخم الجهاز الإداري، خفض الضرائب الفدرالية للدخل وأرباح رؤوس الأموال والحدّ من الرقابة الحكومية لقطاع العمل، وغيرها من الإجراءات. وساهم في إحداث تغيير في قانون الضرائب الأميركي، ما أدّى إلى تعزيز الاقتصاد الأميركي في ثمانينيات القرن الماضي، واعتماد اقتصاد دول عديدة على الاقتصاد الأميركي، ما أدّى، كذلك، إلى تراجع النظام الاشتراكي، وانهيار جدار برلين وانحلال الاتحاد السوفييتي.
مجموعات التأثير المتنفذة في أميركا
وألقى روبرتس مزيدًا من الأضواء على الفئات المؤثرة في الطبقات العليا في أميركا، وفي مقدمتها مجموعات اقتصادية متنفذة في القطاع الخاص، وتحديدًا القطاع العسكري وصناعة السلاح والأمن، وول ستريت والبنوك العملاقة، اللوبي الإسرائيلي، قطاع الزراعة – شركة مونسانتو متعددة الجنسيات مثالاً، وشركات التنقيب عن النفط والغاز والمناجم ومصادر الطاقة المختلفة. وتمتلك هذه المجموعات أموالاً طائلة، تستثمر جزءًا منها في دعم المرشحين المفضلين لعضوية الكونغرس والحملات الانتخابية لمنصب الرئاسة، لتحقيق مصالحها الخاصة، وعلى الفائزين المحافظة على مصالحها ودعمها. ويؤكّد روبرتس أنّ خطوات كثيرة يقوم بها المسؤولون في أميركا لا تصب في مصلحة المجتمع الأميركي، بالقدر الذي تخدم فيه مصالح المجموعات الاقتصادية الضاغطة. ويضيف إنّ ريغان كان الرئيس الأخير الذي تمتّع بحرية نسبية، بعيدًا عن الضغوط الاقتصادية المتمركزة في القطاع الخاص الأميركي، لتمتعه بشعبية كبيرة، أتاحت له هامشًا من الحرية السياسية. أمّا بشأن الانتخابات الرئاسية المقبلة، فلم يعد مهمًا من سيدخل إلى البيت الأبيض، ومن سيترشح لعضوية الكونغرس، لأنّ المجموعات المذكورة قادرة على التحكّم بهم، وتطويع إرادتهم.
ليس بول روبرتس وحده من يحاول التحذير من مغبة تورط أوروبا في حرب، أو في صراع استراتيجي مع روسيا، سيؤثر بلا شك على النمو الاقتصادي لهذه الدول، والذي يعتمد، بشكل أو بآخر، على مقوّمات الاقتصاد وموارد الطاقة الروسية.
صرح وزير الخارجية الأميركي الأسبق (1989 – 1992)، جيمس بيكر، لوكالة CNN للأنباء إنّ الولايات المتحدة أضاعت الفرصة في تلك الحقبة، لدعوة روسيا للانضمام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، الأمر الذي كان سيحول دون التصعيد العسكري في أوكرانيا ووقف القتال الدموي على الحدود المشتركة مع روسيا. ونوّه إلى ضرورة بذل الجهود مع حلفاء الولايات المتحدة لإيجاد الوسيلة لإعادة روسيا إلى المجتمع الأممي، وكان جديرًا بالحلف، إثر انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، السماح لروسيا بالانضمام إليه، باعتباره حلفاً سياسياً وأمنياً. أمّا طرح خطة مارشال على روسيا فليس موفقًا. وأضاف بيكر بأنّه كان حريًا بقادة الحلف إفساح المجال لروسيا للانضمام لنادي الأطلسي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما تعامل مع ألمانيا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً أن العلاقات الأميركية الروسية شهدت تحسنًا خمس عشرة سنة، في عهد بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين أيضًا. وطالب بيكر بوقف تقسيم أوكرانيا إلى أجزاء، لأنّ الاستمرار في هذا الشأن محفوف بمخاطر كثيرة على الصعيد الدولي.
في الوقت الذي بدأت فيه أصوات معتدلة ترتفع في أميركا، للحدّ من التوتر وترجيح العقل، بما يتعلّق بالأزمة الأوكرانية، يدلي الرئيس البولندي السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام، ليخ فاليسا، في الثامن من أبريل/نيسان الجاري، بتصريحات نارية للصحيفة الأوكرانية "إيكونوميتسكايا برافدا"، ويطالب الغرب بتهديد موسكو بالسلاح النووي عند الضرورة، للتوقف عن عداءيتها تجاه دول الجوار. وأضاف أنّه على استعداد للانخراط في القتال حال اعتداء موسكو على بولندا، مع أنّه حائز جائزة نوبل للسلام، واتهم روسيا بالعدائية وعدم تبنيها القيم الديمقراطية الأوروبية على مرّ العصور.
بوروشينكو يعرض لبوتين ضمّ إقليم دونباس
ووفقًا لما نشرته مجلة فوربس في مطلع شهر أبريل/نيسان الجاري، عرض الرئيس الأوكراني، بترو بوروشينكو، على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في المحادثات التي عقدت في مينسك يومي 11و12 فبراير/شباط الماضي، ضمّ منطقة دونباس لروسيا، لكنّ بوتين أجاب: هل أصبت بالجنون؟ أنا لا أحتاج لدونباس. إذا رغبتم بالتخلّي عنه، أعلنوا استقلال الإقليم. اعترف بوتين بهذه التفاصيل، في 19 مارس/آذار في اللقاء الذي جمعه مع ممثلي اتحاد رجال الأعمال والصناعيين الروس. وما دامت كييف غير قادرة على اتخاذ مثل هذه الخطوة، عليها إذًا الاعتناء بالأوضاع الاجتماعية، ودفع الرواتب ومستحقات التقاعد لمواطني دونباس، وعدم التهرب من هذه المسؤولية. وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية التي تعصف بأوكرانيا، عليها أن تجد حلولا جذرية للصراع الدائر في أقاليمها البعيدة.
لا يولي الرئيس الروسي اتفاقية مينسك أهمية كبيرة، ويعتقد أنّ الصراع والقتال في أوكرانيا سيشتد، ويرى أنّ السلطات في كييف لا ترغب بحلّ سلمي، وتبذل جهدها للانتصار على المتمردين، وتدمير الاقتصاد في منطقة دونباس. وأشار إلى أنّ كييف لم تصادق على قرار العفو على المتمردين، وأكّد إنّ الوضع القانوني للمواطنين من أصول روسية لا يضمن حقوقهم، ولا يسمح بإقامة حكم ذاتي. ويرى القادة الأوربيون إنّ أوكرانيا على وشك إجهاض اتفاقية مينسك، لكنّ رفع معدلات التوتر والعنف يصب، في النهاية، في صالح أميركا، لأنّ استمرار الصراع سيبقي على الخلاف قائمًا بين المنظومة الأوروبية وروسيا. ويضيف بوتين أنّ العقوبات المستمرة ستؤثر سلبًا كذلك على قطاع العمل في الاتحاد الأوروبي وروسيا، على حدّ سواء.
إقليم دونيتسك يكتفي بالاعتراف الروسي
ويعتبر إقليم دونيتسك في شرق أوكرانيا عبئًا على الحكومة الأوكرانية المركزية، وتبدو كييف غير قادرة على حسم الصراع فيه، مع رغبتها بالقضاء على المعارضة، حتى وإن كان ثمن ذلك عدم الالتزام بمعاهدة مينسك الثانية. وقد صرّح ألكسندر كاوفمان، وزير خارجية الإقليم غير المعترف به من أيّ طرف على الإطلاق، صرّح إنّ الإقليم يكتفي باعتراف روسيا الفدرالية بجمهورية دونيتسك الشعبية، وقال لصحيفة كابيتال البلغارية إنّ الأوضاع في الإقليم سيئة للغاية، فأوكرانيا تصعّد العنف، وتسيطر على بعض المحاور المهمة. وأضاف أنّ هناك ضرورة للتوصل إلى اتفاق، والجلوس إلى طاولة المفاوضات، لترسيم الحدود مع أوكرانيا لتشمل المناطق الأخرى التابعة للإقليم، بعد موافقة المواطنين على الاستقلال عن أوكرانيا في الاستفتاء الشعبي الأخير، أهم المدن المعنية هي كستانتينوفكا، كريماتورسك، ماريوبول وسلافيانسك وغيرها. وأكّد الوزير عدم وجود أي حوار سلمي مع كييف التي لم تلتزم بقرار وقف إطلاق النار، ولم تسحب آلياتها العسكرية، ولم تحدّد الوضع القانوني للإقليم.
وقال كاوفمان إنّه من غير الممكن عمليّاً إجبار أربعة ملايين مواطن في إقليمي دونيتسك ولوغانس، للمشاركة في الاستفتاء الشعبي، خلافًا لما هو متداول في الدول الغربية، مؤكّدًا أنّ الإقليمين يرغبان بالانفصال عن أوكرانيا، والحصول على الحكم الذاتي وإعلان الاستقلال. وأكّد أنّ القوات الشعبية المسلحة سحبت آلياتها من نقاط التماس، تنفيذًا لبنود اتفاقية مينسك الثانية، لكنّه انسحاب من طرف واحد. ودافع كاوفمان بشدّة عن روسيا، موضّحًا أنّها لم تتدخل بشأن تنظيم عملية الاستفتاء، وكان جزاؤها نتيجة لذلك فرض عقوبات اقتصادية قاسية ضدّها. ولم تقدم روسيا، حسب أقوال كاوفمان، سوى مساعدات إنسانية، من دون أيّ تدخّل عسكري. ويشار إلى أنّ متقاعدين عسكريين روساً انضموا للقتال في صفوف الانفصاليين في شرق أوكرانيا، كما رصدت الأقمار الصناعية آليات عسكرية روسية، متوجهة لهذه المناطق، وفقًا لما صرّحت به وكالات إعلام غربية عديدة. وعلى الرغم من أنّ الحديث عن المصادقة على دستور جديد في الإقليم يخالف بنود معاهدة مينسك، إلا أنّ قادة الانفصال هناك منهمكون، حاليًا، في وضع دستور مستقل عن أوكرانيا. ولن يتدخل الإقليم فيما بعد، إذا ما ثارت الأقاليم الأخرى، وأهمّها إوديسة وماريوبول وخاركوف، للحصول على استقلالها عن أوكرانيا، ما يعني تفتيت هذه الدولة على أرض الواقع. ويقيم قادة الانفصال في دونيتسك علاقات سياسية مع أحزاب سياسية روسية عديدة، ويرون عدم وجود رجال سياسة في أوكرانيا يمكن التواصل معهم، لإيجاد حلول عادلة للصراع القائم في شرق البلاد. وقال إنّ الإقليم سيكتفي باعتراف روسيا، لتحقيق النمو الاقتصادي، لامتلاكه مقدّرات صناعية وموارد للطاقة كثيرة، وأوروبا هي التي تحتاج لهذا الإقليم، وليس عكس ذلك، كما سيطرق الإقليم أبواب دول أميركا اللاتينية والأبخاز والصناديق الأميركية للاعتراف باستقلاله، كما قامت بذلك غولدا مائير، حين زارت أميركا وطالبت بالمساعدات المالية، وحصلت كذلك على الدعم الأميركي لإسرائيل. فهل تعني تصريحات كاوفمان تحوّل هذه الأقاليم أداة ضغط مستقبلية بيد روسيا، حال حصولها على الاستقلال المنشود؟
أمّا بشأن مستقبل الإقليم وعلاقاته مع روسيا وأوكرانيا، فقد صرّح كاوفمان أنّ الإقليم على أتمّ الاستعداد للبقاء ضمن الدولة الأوكرانية وعدم الانفصال عنها، إذا عوقبت التنظيمات والقادة العسكريون الذين أقدموا على قتل المواطنين الأبرياء في دونيتسك، وإذا تم القضاء على الفاشية في كييف، بحسب تعبيره. لكن، يبدو هذا الأمر مستحيلا. أمّا الانضمام للفيدرالية الروسية، فلن يتم قبل الحصول على الاستقلال.
رئيس تشيكيا يتحدّى
شهدت العاصمة التشيكية براغ، قبل أيام، خلافًا وحدّة غير مسبوقين بين الرئيس التشيكي ميلوش زيمان والسفير الأميركي أندريو شابيرو، بشأن المشاركة في احتفالات الكرملين في الذكرى السبعين للانتصار على الفاشية، في التاسع من مايو/أيار المقبل، حيث أعرب السفير عن أسفه لمشاركة زيمان، بصفته الرئيس الأوروبي الوحيد الذي سيشارك في الاحتفالات الروسية، وتعتبر الأزمة الأوكرانية السبب الرئيس في هذه المقاطعة. وانتقد الرئيس التشيكي بشدّة تدخل الدبلوماسي الأميركي في الشؤون الداخلية للبلاد، وقال إنّه من غير الممكن أن ينتقد السفير التشيكي في واشنطن الرئيس الأميركي. ومن المتوقع، بعد هذه المواجهة، بقاء أبواب قصر الرئاسة في خرادتشاني في براغ مغلقة في وجه السفير الأميركي. وأوضح الرئيس زيمان أنّه لن يذهب إلى موسكو للمشاركة في الاستعراض العسكري للجيش الروسي، وإنما للتعبير عن امتنان تشيكوسلوفاكيا للجيش الأحمر الذي قدّم 150 ألف مقاتل، قربانًا لتحرير بلاده في الحرب العالمية الثانية. تعدّ التشيك دولة حليفة ومقرّبة من الناتو والولايات المتحدة الأميركية، فهل ستتبع التشيك دول أخرى، في محاولة للحدّ من النفوذ الأميركي، وخفض معدّلات التدخّل في الشؤون الداخلية؟
ويحمل الخلاف في براغ، والذي يبدو سطحيًا، دلالات كثيرة، ويشير، بما لا يقبل الشكّ، إلى حجم النفوذ الأميركي في دول أوروبا الشرقية، والقدرة على التدخل في الشؤون الداخلية، خصوصاً بعد أن تمكنت من الحصول على امتيازات خاصة لاستثمار قواعدها العسكرية واستغلالها لتمركز القوات الأميركية، للقيام بعمليات التدخل السريع والعاجل في أوروبا والبلقان. ما يدلّ كذلك على أن أوروبا أخذت تلعب دور رأس الحربة الأميركية، بشكل ملموس وواضح.